في إحدي لافتاته يقول الشاعر العربي أحمد مطر: «وضعوني في إناء، ثم قالوا لي تأقلم، وأنا لست بماء، أنا من طين السماء، وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم».
تمعنت جيدا في هذه اللافتة التي صاغها أحمد مطر بعناية ودقة وبحس بالغ الرهافة وأنا أنظر إلى واقعنا اليوم... نقف على أبواب الاستحقاق النيابي الذي انتظرناه سنوات طوال! ثم وجدتني ومن دون سابق تخطيط أتساءل... من وضعنا في هذا الإناء الضيق؟ الذي يكاد يخنقنا جميعا. يبدو أنه لا يتناسب مع حجم وطموحات وآمال غالبية شعب البحرين.
سنوات طويلة والألسن كلها تردد «البرلمان هو الحل»... شعارات كثيرة خطتها دماء زكية وأرواح طاهرة لفظت أنفاسها الأخيرة وهي تنادي «بتفعيل الدستور»... دموع غزيرة وأنّات موجعة عبرت عنها آهات وزفرات كثيرين من أبناء وبنات هذا الشعب، وهم يرزحون تحت أصناف القهر والتعذيب النفسي والجسدي لكنهم كانوا دائما يتطلعون إلى نافذة صغيرة أو ربما شق في جدار السجن أو بوابة الزنزانة ينفذ منه الضوء، فيعزّون أنفسهم ويشحذون الهمم ولسان حالهم يقول: «لا أمن ولا أمان من دون البرلمان».
مبعدون ومنفيون أفنوا أعمارهم وهم يحملون وطنهم في حقائب سفرهم من مطار إلى آخر... مطاردون يحلمون بالعودة إلى وطن تحمّلوا من أجله الكثير في سبيل أن يستعيد عافيته ووحدته، ويحتضنهم مثل كل بني الإنسان من دون خوف أو وجل في ظل «دولة الدستور والقانون والمؤسسات».
لكن هذا الحلم الذي حلم به كثيرون يبدو أنه جاء على غير ما يشتهون. وبدل أن يكون مقدم عز او بشارة خير ويوم فرح، يبدو أن الظروف والملابسات التي تحيط به ربما تجعله فألا سيئا ويوم نحس على الوطن والمواطن ما لم يتم الانتباه الى الاجواء المتوترة والمشحونة حد الانفجار، والآخذة في التمترس خلف مواقفها الرافضة او الموافقة على الطريقة التي قدّم بها هذا البرلمان الذي لا تزال ولادته متعسرة حتى الآن!
ففي الجانب الأول يداري معظم مؤيدي المشاركة في العملية الانتخابية مواقفهم المؤيدة للدخول في التجربة بأسباب شتى يمكن إيجازها في عدة نقاط:
1. افتقار غالبيتهم الى الشعبية والجماهيرية اللازمة والحماس أيضا.
2. عدم امتلاكهم برامج سياسية مناسبة ومقنعة بأن البرلمان المقبل هو ما نادي به شعب البحرين طيلة السنوات الماضية.
3. افتقار غالبيتهم إلى الأهلية السياسية والاجتماعية.
4. اقتناع الكثير منهم بأن البرلمان المقبل سيكون كسيحا ومشلولا، وهو ما تردده الفعاليات والجمعيات السياسية الداعية إلى المقاطعة.
5. اعتقاد البعض منهم بأن الانتخابات سوف تؤجَّل في اللحظات الأخيرة.
6. خوف الكثير منهم من آثار المقاطعة الشعبية له والاحتراق جماهيريا.
7. عدم وجود قوة مجتمعية مساندة لهم بدرجة كافية.
8. صمت الحكومة وعدم تقدمها بأية مبادرة لدعم الانتخابات.
وفي الجانب الثاني فإن قطاعات كبيرة من الداعين إلى عدم المشاركة في الانتخابات ترى ان الفرصة مواتية جدا لشن هجوم معاكس لتثبيط الهمم والترويج إلى عدم مشروعية الحياة النيابية المقبلة وعدم دستوريتها مستندة في ذلك إلى توافق كثير من القوى والفعاليات السياسية والاجتماعية على ان دستور 2002 قد أحدث خرقا كبيرا في المفاهيم الدستورية المتوافق عليها في البلاد عندما ساوى بين المجلس المعين والمجلس المنتخب في ممارسة السلطات التشريعية الأمر الذي يعتبره كل الداعين إلى المقاطعة وشريحة كبيرة من الداعين إلى المشاركة نكوصا عن بنود الميثاق الوطني والوعود والتطمينات التي أطلقتها جهات نافذة ومسئولة في الجهاز الرسمي للدولة، فضلا عن تسجيله تراجعا واضحا عن مكتسبات دستور 73 التعاقدي بين الشعب والحكومة.
مواطن يعلن «التوبة السياسية»
إن فرزا جديدا بدأ يأخذ في التشكل وهو سيؤدي حتما إلى إعادة تفكيك وخلخلة في كثير من روابط وأواصر المجتمع البحريني، وإذا لم يتم احتواء ذلك فإن البرلمان الذي حلم به الجميع سيكون بمثابة اللعنة التي نزلت على شعب البحرين فزادته بلاء وابتلاء، وللتدليل على ذلك اقرأوا معي هذه القصة، أحد المواطنين، سجل اسمه في إحدى الجمعيات السياسية التي تشكلت بعد انطلاق النهج الاصلاحي في البلاد. ونظرا لأن هذه الجمعية التي سجل فيها لا تحظى بقبول اجتماعي كاف في منطقته... فقد أدى ذلك إلى ان بدأت ضده حربا لا هوادة فيها، كانت البداية مقاطعة اقتصادية. لا أحد يشتري من دكانه، ثم تدهور الأمر أكثر إلى مقاطعة اجتماعية، لا أحد يسلم عليه ولا أحد يزوره، ثم تدهور الأمر أكثر فأكثر لا أحد يتعامل مع أبنائه وعائلته، وعند تلك المرحلة قرر هذا المواطن إعادة حساباته من جديد، وكان لا بد من اتخاذ قرارات صعبة، أعلن انسحابه من الجمعية رسميا، لصق على دكانه إعلانا مكتوبا بذلك، بدأ في إعلان البراءة من الجمعية وأعلن التوبة والعودة إلى رشده.
ماذا حدث بعد ذلك؟ شيئا فشيئا استعاد علاقاته وتفاعل مجتمعه معه.
ترى من منا يريد ان يحصل له ذلك؟ وكم من المرشحين للانتخابات سيصادفهم موقف مشابه للمواقف الذي تعرض له هذا المواطن الذي دخل إلى تلك الجمعية المغضوب عليها في محيطه، وكيف ستتمكن الحكومة من إقناع الناس بالتعامل مع هؤلاء المرشحين إذا حدث المحذور.
شروخ في العلاقات الاجتماعية
إن الأمر جدّ خطير، وهو ينذر بشروخ كبيرة ستحدث في المجتمع ومن لا يصدق ذلك عليه أن يتذكر تجربة مجلس الشورى المعين خلال فترة التسعينات، وليتأمل كم من العلاقات القوية بين مواطنين خارج المجلس ومواطنين داخل المجلس فعل الزمن بها فعلته وعانت من هزات عنيفة أودت ببعضها وكادت أن تودي بالباقي.
أخشى أن هذا الإناء الضيق (البرلمان) لا يتناسب مع نمو شعب البحرين بالقدر الكافي، وأخشى أن يتحطم فيعود الحزن طوفانا جارفا يغرق ويدمر كثيرا من العلاقات الاجتماعية والوشائج العائلية التي يتكون منها نسيج المجتمع البحريني المسالم.
ربّ قائل يقول إن الجمعيات التي تبنت خيار المقاطعة قد أكدت مرارا وتكرارا بأنها لن تلجأ إلى العنف أو التحريض عليه. هذا صحيح لكن هذه الجمعيات لا تملك قرار الشارع إذا ما اتجه سلميا إلى مقاطعة شعبية عارمة للمترشحين للانتخابات النيابية سواء فازوا أم لم يفوزوا بمقاعد البرلمان، إنه جرس إنذار... نقرعه قبل فوات الأوان عندها لن ينفع الندم مثلما لن ينفع البرلمان.
وهناك على الضفة الأخرى، اليوم من يعيد حساباته كما فعل صاحبنا المواطن عندما انسحب من تلك الجمعية، بعض المترشحين يعيدون حساباتهم، يفكرون جيدا، في المكسب والخسارة على الصعيد الاجتماعي أولا وأخيرا!
ماذا لو وجدوا أن الخسائر أكثر من المكاسب، ومن ثم قرروا الانسحاب من الترشيح قبل يوم الانتخاب؟
ماذا لو وجدت الحكومة بعض الدوائر خالية الوفاض من المترشحين كافة؟
ماذا لو تدنى عدد الناخبين في بعض الدوائر إلى أقل من 100 ناخب من أصل آلاف؟
ماذا لو زادت أعداد الأصوات الباطلة في بعض الدوائر على الأصوات الصحيحة؟
أسئلة كثيرة نحن بحاجة إلى إجابات شافية عليها قبل ان «تقع الفأس في الرأس»، عندها لا ينفع الندم وربما لا ينفع البرلمان أيضا، ويبدو انه لا مفر من مراجعة شاملة لكل الاحتمالات ومن ثم اتخاذ القرارات الصائبة مهما كانت درجة صعوبتها.
مخارج للأزمة
ربما سيكون من المفيد ان تستمع الحكومة إلى آراء وتصورات بعض الشخصيات الوطنية الحريصة تماما على مصلحة الوطن ومن كل الاتجاهات من خلال ما يمكن ان نسميه «لجنة حوار وطني».
ربما تتجه الحكومة إلى فتح حوار مع بعض الفعاليات الدينية المؤثرة للوصول إلى صيغة وسط تحفظ للجميع حقوقهم وتعفيهم من الاحراج.
ربما سيكون من المفيد ان تستدعي الحكومة عددا من المحامين والقانونيين من أبناء هذا البلد القلقين على مصيره وتتحاور معهم لإيجاد مخرج قانوني مناسب.
ربما تلجأ الحكومة إلى الاستعانة بخبراء دوليين محايدين لمراجعة بعض الأمور والأنظمة واللوائح الدستورية ومن ثم تخفّ حدة التوتر.
ربما تلجأ الحكومة إلى تشكيل فريق عمل يضم ممثلين عن الجمعيات الداعية إلى المقاطعة وممثلين عن الجمعيات المشاركة وممثلين عن الحكومة وبعض الشخصيات الوطنية المستقلة لتقديم المقترحات من حلول وبدائل ممكنة.
ربما تلجأ الحكومة إلى تعليق وتأجيل الانتخابات لفترة معينة حتى يتسنى لها وللجميع إعادة تقييم الحال التي وصلنا إليها.
ربما تعيد الحكومة النظر في بعض الاجراءات والقوانين والأنظمة والمواد الدستورية التي لا تلاقي صدى طيبا لدى الغالبية من أبناء هذا الشعب.
ربما يفاجئنا عظمة الملك المفدى بحل لم يخطر على بال أحد عندما يلقي خطابه الموعود في زيارته المقررة إلى قلعة عراد يوم الاثنين السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2002 وسط ذلك التجمع الحاشد من المواطنين المتلهفين إلى سماع الجديد على لسانه.
كثيرة هي الأماني والطموحات... وكبيرة هي الآمال التي يعلقها الجميع على قدرة عاهل البلاد الفائقة على المبادأة والاقتحام وأخذ زمام المبادرة إذ شهد الجميع ذلك وتلمّس حنكة عظمته السياسية التي استطاعت ان تقفل إلى الأبد ملفات ساخنة ما كان أحد يتصور ان بالإمكان إغلاقها بالكيفية والسرعة التي تمت بها.
ويبقى الأمل معقودا على عظمته والأعناق مشرئبة للقائه ليعيد القطار إلى طريقه القويم ويعيد البسمة والألفة إلى هذا الشعب العظيم. ولسان حالنا جميعا يقول قبل فوات الأوان: «أنقذنا يا أبا سلمان...
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 31 - الأحد 06 أكتوبر 2002م الموافق 29 رجب 1423هـ