في جِلسة حِوار قال متحدثٌ بحريني، وكان قد تقاعد عن العمل من أحد المصارف، بعد أن قضى في الخدمة قرابة 30 عامًا، كان في نصفها الأخير مديرًا، قال: «إن الشباب البحريني لا يجد بيئةً حاضنة تأخذ بيده، ولا يجد من يساعده في تطوير مساره الوظيفي». قضى المتحدث هذا عمره الوظيفي لا يغيث ملهوفًا ولا يروي ظمآن. والآن وبعد أن تقاعد، صار يتحدث عن أهمية البيئة الحاضنة للشباب البحريني، ومساعدتهم في شق طريقهم العملي بنجاح.
وفي ندوة عقدت في إحدى جمعيات النفع العام، تحدث مدير متقاعد من إحدى الشركات الصناعية في البحرين، تحدث عن عنايته الشخصية بالشباب البحريني ورعايته لهم، والجهود الجبارة التي بذلها -طوال فترة عمله- في سبيل تطوير الموظفين، وحثهم على التعليم والتدريب المستمرين. أسهب هذا المدير في عد مزاياه، وسَرَدَ قصصًا من بطولاته وكفاحه في هذا المجال، حتى خُيل للحضور بأنه يجب أن يُبنى لهذا المدير العصري تمثال؛ تقديرًا لأعماله، ولا أقل من أن يمنح أوسمة رفيعة، وفاءً لجهوده الاستثنائية في رعاية وتطوير القوى العاملة في البحرين. حينها، همس في أذني أشيب بحريني كان يجلس بجانبي قائلًا: «كنت أنا أحد ضحاياه، وقد حاول جادًا منعي من التطور، وحرمني الكثير من فرص التدريب والترقية، كما فعل هذا مع الكثيرين غيري من الموظفين في تلكم الشركة، حتى بات يعرف بهذه الفضيلة!».
المشكلة عند هذين المُديرَين -وعندي وعندك- أننا غالبًا ما نقول ما لا نفعل. في الأعم الأغلب إذا استمعت لمتحدث فإنك تأخذ انطباعًا ممتازًا عنه؛ عن صدقيته، عن عدالته، عن ديمقراطيته، وعن كنوز الخير والمحبة الذي يحويها بين جوانحه. بَيْدَ أن الفرق بين القول والفعل عند غالبية الناس كبير.
قال تعالى: «... لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كَبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».
ويقول المصطفى (ص): «مَنْ أصغى إلى ناطِقٍ فَقَد عَبَدَهُ: فإن كانَ النّاطِق عن اللّهِ؛ فقد عَبَدَ اللّه، وإن كانَ النّاطِق عن إبليسَ؛ فقد عَبَدَ إبليسَ». ذلك لإنك -وكما أسلفنا- تتأثر كثيرًا بما يقول من تستمع إليه، وتتصور أنه قديسٌ نتيجة ما يقول، وإن كان في واقعه وحقيقته شيطانًا مَريدًا. فحذارِ من الإصغاء للفاسدين.
وفي الحياة كثيرًا ما تسمع عن بخيل يزعُمُ أنه جواد، ولئيمٍ يَعُدُ نفسه كريمًا، وسارق يدعي محاربة الفساد وينادي بالشفافية، وظالِمٍ يسهب في الحديث عن العدالة.
«وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ». أيها القارئ الكريم، تأمل: فرعون الطاغية يقول عن نبي -معصوم ومن أولي العزم من الرسل- إن هذا النبي جاء ليُفسد في الأرض، ما يعني أنه هو المُصلح وموسى هو المُفسد.
وقال أبو العلاء المعري:
وقال السُها للشمس أنت كسيفة
وقال الدجى للبدر وجهك حائل
والسُّها كوكبٌ صَغيرٌ خَفيُّ الضوء.
وقديمًا قيل إن هداية الغير فرع الاهتداء.
وطبيعة الاختلاف الشاسع بين القول والفعل، طبيعة مترسخة في نفوس الناس جميعًا إلا من رَحِمَ ربي. يقول الإمام الحسين (ع): «الناس عبيدُ الدنيا، والدِّين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء، قل الديانون».
ولهذه الظاهرة -الفرق الشاسع بين القول والفعل- آثارٌ ضارة كثيرة، على الفرد والمجتمع.
وقد تسأل أيها القارئ الكريم: هل لهذا المرض من علاج؟ وهل تختلف هذه الرزية من مجتمع لآخر؟ وهل للتعليم والثقافة أثرًا في انتشارها في المجتمع؟ وهل عالجتها الديانات السماوية والحضارات الدنيوية؟ وهل هناك فَرْقٌ إحصائي يُعتدُ به (Statistical Significance) بين المجتمعات المُتَدَيِّنَة وغيرها في هذا السلوك المشين؟ وهل نحن اليوم أحسن حالًا من أسلافنا -في هذه الرذيلة- أم أن العكس هو الصحيح؟ وهل يأتي يوم تختفي هذه العائبة من حياة البشر؟
هذه وغيرها من الأسئلة، أتركها للقراء الكرام، للحوار بشأنها.
أرجو أن يُسْهِم هذا المقال في تَحَسُنٍ -ولو بسيط- في هذا الصدد في نفسي وعند القارئ الكريم، جعلنا الله وإياكم من يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهو ولي التوفيق.
إقرأ أيضا لـ "جاسم الموالي"العدد 5206 - الأربعاء 07 ديسمبر 2016م الموافق 07 ربيع الاول 1438هـ
سؤالي
هل النساء أفضل حالًا من الرجال في هذه الممارسة؟
طيب استاذ جاسم انت كنت نائبا وهذه النماذج كانت لديك وتعرف البير و غطاه عن السياسة المنفذّة والغير مكتوبة فماذا صنعت أيام كنت نائبا؟
ألم يكن بمقدورك الغوص في هذه المشاكل والقصص وستجد الكثير من الدعم لك ولأمثالك ممن يحاول اسعاف هؤلاء المظلومين والذين لو اعطيت لهم الحرّية في الحديث لجمعت كتبا من القصص عن معاناتهم.
وينك تلك الأيام التي قضيتموها بين قتل الناطور والعنب ولا طلعنا منكم بفائدة تذكر
نعم أستاذي الكريم أبو جواد هذا هو حال معظم البشر لا سيما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية للأسف لا يرى أحدنا عيبا ولا تقصيراً ولا نقصاً في نفسه مطلقاً والعيوب والنواقص والعجز كله في غيره. أتذكر لك كلمة جميلة قلت فيها "إن أول خطوة تجاه التوبة الإعتراف بالذنب". لكن أين نحن من تلك الخطوة؟ المقال رائع جدا ولو أنني لست في محل تقييم من هو أعلى مني مرتبة علمية . تلميذك : منصور .
كلام في قمة الأناقة والشفافية وليس بغريب فأنت أهل للمصداقية والعفوية وها نحن دائما ننتظر منك الجديد والمفيد بوركت
أحسنت أخي العزيز, مقال رائع صازق ومهم تسليط الضوء على هذا الأمر. وكما يقال: لا أستطيع سماع ما تقول فما تفعل يصم آذاني عن الإستماع لما تقول