ما يعمل على إعادة نظرك في العالم والناس والأشياء والروائح، هناك في كتاب، هو حصيلة خبرات وتجارب وتعمُّق في المعارف والتأمل. هو حصيلة قدرة أولئك البشر على النظر الآخر، والتعبير الآخر، والرؤية الأخرى، والطاقات التي ترى أولها، ولكن من الصعب أن تُحيط بآخرها، هذا إذا كانت لمثل تلك الطاقات من نهايات، مادامت وجدت في هذا العالم كي تتعلم وتتأمل وتتألم أيضاً، وتخرج بحصيلة من كنوز بفعل كل ذلك التنوع الجميل في انفتاحها على المعرفة.
لن تجد ما يأخذ بيدك من أول الليل حتى فسحة الصباح وشرفته مثل كتاب وضعه صاحبه ذات ليل وأنت تنعم بنومك، أو وضعه صاحبه وهو يكابر آلامه، وأنت تلهو وتتمتع بوقتك، أو وضعه وهو في غربة وأنت تتقلَّب بين تفاصيل الوطن الذي ولدت فيه، ببشره، وشمسه... برفاهية بعض مدنه، والشقاء الذي يتم التستُّر عليه في بعض آخر.
لم يصنع كل هذا المدهش في العالم من حولنا إلا فكرة في كتاب، أو بعض جنون في تخيُّل وتمنٍّ. لم يصنعه إلا التوغُّل في مناطق لم يجرؤ كثيرون من الاقتراب منها، فقط كي لا يُتهموا بالجنون. قبل أولئك بالجنون كي ينمو عقل العالم أكثر. لم يجدو غضاضة في أن يُنظر إليهم باعتبارهم غرباء، مادام ما يكتبون سيعمل على إنهاء غربات كثيرين، أو على الأقل تحييدها، أو الحد منها.
يوم أن كانت حركة نشر الكتاب لا تكاد تُذكر، وإلى الخاصة أقرب من العامة، لم يفقد سحره ووهجه بحرص أجدادنا وآبائنا على اكتساب معارفهم وإدراكهم منه، علاوة على منزلته ومكانته عند الخاصة التي كانت تجل الكتاب وأصحابه، وتستقطب النابهين منهم، من قمة الهرم إلى الذين يديرون شئونهم، وصولاً إلا المشتغلين بصناعته.
نقف على إضاءات من تاريخنا العربي والإسلامي، في فترة شهدت احتلال العلماء والكتَّاب مكانة مرموقة وذات أثر كبير، ومن بين ما نقف عليه ما قاله كاتب هارون الرشيد قبل أن يلي الخلافة، ثم أصبح وزيره بعد أن تولاها يحيى بن خالد البرمكي: «أدركت أهل الأدب وهم يكتبون أحسن ما يسمعون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويتحدثون بأحسن ما يحفظون».
ولا يأتي التحدّث بأفضل ما يتم حفظه إلا بأثر من مصدر الحفظ: الكتاب الذي اكتسب مكانة كبيرة في فترة ازدهار الدولة العباسية بدءاً من هارون الرشيد، ووصل ذروته في عهد ابنه المأمون.
أما الإمام الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، المتوفى سنة 790هـ، وهو من علماء الأندلس، فقد قال ما هو قريب من ذلك: «كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال».
ولعل من بين أعمق ما قيل عن القراءة ومحصلاتها ما قاله الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير (ولد في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1694، وتوفي في 30 مايو/ أيار 1778): «سُئلت عمَّن سيقود الجنس البشري؟ فأجبت: الذين يعرفون كيف يقرؤون». والمعرفة هنا لا تعني المباشر من معرفة الأبجدية فحسب، بل تعني مآلات تلك القراءة. فأن تقرأ دون أن تتغير فكأنك لم تفعل. التعويل على ما يمكن للقراءة أن تحدثه من تغيير كبير يطال كل مناحي الحياة التي أنت مركزها.
وليس بعيداً عن ذلك، وإنْ بشاعرية مرهفة، ما قاله الشاعر والعالم الإنجليزي، الذي عُرف بقصيدته «الفردوس المفقود»، جون ميلتون (ولد في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1608، وتوفي في 8 نوفمبر 1674): «الكتابُ النافعُ المفيد دمُ الحياة الثمين، لغذاء الروح المترفة».
وليس من قبيل الاكتشاف تقرير أن الأمم التي تفتح أكثر من فضاء وسماء للكتاب لن تكون على الأرض. إنها تعلّم أبناءها أن يحلِّقوا بأكثر من جناح، وتسكنهم أكثر من روح، بتلك الممارسة النبيلة. وأن تقرأ، فذلك يعني الفعل في أول ما يعنيه: أن تذهب إلى ما بعد الإدراك بمراحل. أن تكون سيد وقتك.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5206 - الأربعاء 07 ديسمبر 2016م الموافق 07 ربيع الاول 1438هـ
حتى اواخر التسعينات كنت من مدمني شراء الكتب ومن رواد المكتبات الحكوميه لاستعارة اماا اليوم مع جوجل وضغوطات الحياة لا نقرا نتصفح فقط ومعظم الناس لا تقرا تتصفح لضيق الوقت