مواجهة العدوان الاسرائيلي واغتصاب ثم احتلال الصهاينة للاراضي والمقدسات العربية والاسلامية الذي بدأ مع مطلع القرن الماضي، مرت بمراحل لم تكسب من خلالها إلا شيئا واحدا وهو تغيير التسمية. في البداية كان الاحتلال «عدوانا» و«حربا» على الامة العربية والاسلامية من قبل شرذمة من الناس. وكان الواجب يحتم على الدول العربية والاسلامية محاربة تلك الشرذمة من الناس وطردهم من الاراضي التي اغتصبوها بالقوة ومن غير وجه حق. فحاول العرب والمسلمون دحر ذلك العدوان ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل لأسباب متعددة.
وبعد ان عجز العرب والمسلمون عن تحقيق ذلك الهدف تحوّل العدوان والاغتصاب الاسرائيلي إلى مسمى «نزاع» او «نزاع الشرق الاوسط» كما كان يطلق عليه. وبما انه نزاع، وجب على المتنازعين اللجوء إلى الوسطاء لحل نزاعهم. ولما تقدم الوسيط الذي قبل به الطرفان بقراراته، رفضاها وبقي الحال على ما كان عليه. بعدها تحوّل النزاع إلى مسمى «نضال»، اسست، بغرض انهائه، منظمات استخدمت وسائل متعددة لتحقيق اهدافها. ولما لم تستطع تلك المنظمات تحقيق اهدافها تحوّل الاحتلال والنزاع والنضال إلى مجرد قضية تنشد حلا من مجتمعها المحلي والاقليمي والدولي.
السؤال: هل حقا هي قضية، كما تسمى الآن؟ وإذا كانت كذلك، هل وفرت لها مقتضيات تكسبها، او على الأقل حلها؟ ام انها مجرد تسمية وقتية وستتحول بعد ذلك إلى تسمية اخرى كما حصل في السابق؟
الجواب: نعم، يجوز تسميتها «قضية». لكنها قضية لم تدر بالطريقة الصحيحة التي تدار بها اية قضية اخرى يريد اصحابها كسبها. فعندما بدأت القضية اصدر فيها قاض وقضاء عادلان حكمهما. لكن مع الاسف الشديد لم تكن السلطة التنفيذية ذات سلطة وعليه لم تستطع تنفيذ الحكم. يقول الله سبحانه وتعالى حكمه العادل فيها: «وأُذِنَ للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلاّ أن يقولوا ربُّنا اللهُ ولولا دَفْعُ الله الناسَ بعضَهُم ببعضٍ لهُدّمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكرُ فيها اسمُ الله كثيرا ولينصُرَنَّ الله من يَنْصُرُهُ إنَّ الله لَقويٌ عزيز» (الحج 39 - 40)... اذن من الله سبحانه وتعالى بقتال الظالمين ووعد منه بالنصر وحاشاه ان يخلف وعده. وكانت السلطة التنفيذية التي أمرها الله سبحانه وتعالى بتنفيذ حكمه هي عموم الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
بعد صدور الحكم وجب على السلطة التنفيذية تنفيذ حكم المحكمة. لكنها وحرصا منها على عدم التضحية، خوفا من الموت والخسائر المادية، وتزعزع ثقتها بمن وعدها بالنصر، تخاذلت ولم تقم بواجبها الشرعي والقانوني. فبقي الحكم بين دفة الكتب مع امثاله من الاحكام الاخرى التي لم يتم تنفيذها، وبدلا من العمل على تهيئة المناخ لتنفيذ الحكم نشدت تلك السلطة أحكاما اقل تكلفة وثمنا. فاستؤنفت القضية وتم رفعها إلى محكمة جائرة، يرتشي قضاتها وتقبل بشهادة زور وتصدر احكاما يحق للطرف الاقوى عدم تنفيذها ويجبر الطرف الأضعف على تطبيقها وإلا لاقى الويلات بما في ذلك سلبه ابسط حقوقه المعيشية التي منحها له خالقه وأقرتها كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية..
وعلى رغم الحقيقة الساطعة لتلك المحكمة، أصر اصحاب الحق على الرجوع إليها وتسليمها القضية للحكم فيها. ولم تنته المأساة عند هذا الحد. فالقضية المرفوعة، وعلى رغم صحتها ووضوحها، لم تنل حظها في الدفاع أو المرافعة. فلا كتاب المرافعة كان شافيا، ولا المحامي قام بالدور المطلوب منه قانونا وشرعا ودافع عن حق موكله كما تنص عليه الأعراف، ولا صاحب الحق تمسك بحقه، ولا الشهود أدلوا بشهادتهم كما كان واجبا عليهم. فكتاب المرافعة تطاول على الحقيقة ليكسب ود وموافقة بعض أعضاء المحكمة وشهود الزور. والمحامي، وبعد أن حصل على رسومه مقدما، جعل نصب عينيه سمعته الشخصية كمحام ناجح يشار إليه بالبنان فأخذ يضعف من مرافعاته بغرض الوصول إلى أنصاف وأرباع حلول وهمّه الوحيد هو أن يقال عنه إنه لم يخسر القضية. وأما صاحب الحق وعلى رغم قناعته التامة بأن محاميه غدر به، فإنه تمسك بذلك المحامي لسبب بسيط وهو أنه من لحمته وما رغب في تشويه صورته أمام الأغراب والشامتين! أما الشهود فكان جوابهم «وما شأني أنا إذا كان صاحب القضية موافقا. فأنا شاهد أقول الحق ولكني لا أستطيع إجبار صاحب الحق على التمسك بحقه».
في مقابل ذلك كان هناك القاضي غير العادل الخائف على منصبه من غضب مَنْ لم يخاف الله، وهو المجرم وحلفاؤه. وكان هناك المجرم (المدعى عليه) المستميت في قلب الحقيقة بكل ما أوتي من قوة، مستخدما في ذلك كل الأسلحة المتاحة له بما في ذلك قلب الحقائق والتزوير والأباطيل والافتراءات التي لم يبرع أحد في الوجود في استخدامها كما برع هو، بشهادة خالقه سبحانه وتعالى.
كما كان هناك شهود الزور، الذين، وبحكم ممارستهم لهذا العمل سنين عديدة، أصبحوا متمكنين من هذا العمل إلى درجة أصبحوا يستطيعون تغليف سمّهم بعسل يسيل له لعاب المستمع فيسرع إلى شربه غير عالم بأن فيه هلاكه، كذلك كانت هناك هيئة المحلفين المهيئين للبيع والشراء، كل بحسب مستوى وتأثير زور شهادته.
فكان من المنطقي جدا، والحال هكذا، أن يخسر أصحاب الحق حقهم ويكسب المجرمون القضية. وكل ما استطاع أصحاب الحق الحصول عليه هو تعاز شفهية من قبل بعض هيئة التحكيم المحلفين الذين اعتقد أصحاب الحق واهمين بأنهم أصدقاء وشركاء لهم.
أما جواب السؤال، فأعتقد بأن هذه التسمية هي آخر تسمية ستطلق وذلك لسببين: الأول، إن كل تسمية لهذا العدوان الغاشم والكريه كانت بمثابة عنوان لتحوّل، مع الأسف الشديد، تراجعي تم من خلاله التضحية بجزء من الحقوق العربية والاسلامية. أما وقد وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن من أسفل درك التنازل المشين ولم يعد هناك ما يتنازل عنه، فإن هذه التسمية «قضية الشرق الأوسط» ستبقى كونها الفصل الأخير من فصول العدوان الذي يعيش أزهى أيامه. كما أن القضية تعيش أنفاسها الأخيرة، وأن الذي يتحكم في خروج تلك الأنفاس الآن ليس نفسه الذي كان يتحكم في مسارها سابقا وأن قاموس التنازل المشين فرغ من تلك المصطلحات البغيضة، ولم تعد هناك كلمة تلي كلمة «قضية» في ذلك القاموس الكريه سوى كلمتي «استسلام» أو«سقوط» الشرق الأوسط. وهذا لن يحدث لسبب بسيط، وهذا هو السبب الثاني، وهو الانتفاضة المباركة التي حملت اسم «القدس الشريف» ثالث الحرمين ومسرى الرسول (ص). هذه الانتفاضة رسمت بداية الطريق الصحيح لاسترداد الحقوق المغتصبة وأبانت النهج القويم. نعم، نالها الضيم من أهلها وعشيرتها وأثّر فيها، لكن المؤكد هو أن ذلك الضيم لن يثنيها عن نهجها. يستطيع ذلك الضيم عرقلة خطواتها وربما وقفها ومنعها من التقدم، لكنه لا يستطيع جرها إلى الوراء أبدا. هي انتفاضة فئة آمنت بربها وأخلصت له قولا وفعلا وقدمت في سبيل مرضاته النفس والمال والولد. حاشى الله أن يتخلى عنها
العدد 30 - السبت 05 أكتوبر 2002م الموافق 28 رجب 1423هـ