يظل فيدل كاسترو شخصية مثيرة للانقسام، حتى في الموت. وسيظل إرثه الذي امتد لخمسة عقود كرئيس لكوبا، ذلك الثوري الجريء والمدافع عن الفقراء بالنسبة للبعض، والديكتاتور الطاغية بالنسبة لآخرين، محل جدل لسنوات عديدة مقبلة. ولكن بالنسبة للعالم الخارجي الأوسع نطاقاً، هناك جانب أقل إثارة للجدل من إرث كاسترو تم تجاهله إلى حد كبير. فإضافة إلى توفير الرعاية الصحية المجانية لمواطنيه، أشرف كاسترو على برنامج التعاون الدولي الطبي الذي صدّر المساعدات الطبية إلى 158 دولة ويواصل تقديم عدد أكبر من العاملين الطبيين إلى دول العالم النامي عن إجمالي ما تقدمه مجموعة الدول الصناعية السبع مجتمعة ، وفق ما قال الموقع الالكتروني لشبكة الانباء الانسانية (إيرين) اليوم الأحد (4 ديسمبر/ كانون الأول 2016).
ووفقاً لإحصائيات الحكومة الكوبية حتى مارس من هذا العام، هناك قرابة 55,000 شخص من الكوادر الطبية الكوبية تخدم في 67 دولة. ويوجد قرابة نصفهم في فنزويلا، الحليف السياسي لكوبا، التي تعاني حالياً من نقص شديد في الكوادر والإمدادات الطبية. أما البقية فيعملون في شتى أنحاء أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. ولا شك أن هذا يُعد سجلاً رائعاً لدولة لا يتعدى سكانها 11 مليون نسمة.
والجدير بالذكر أن كاسترو أرسل أول بعثة طبية كوبية إلى تشيلي في أعقاب الزلزال الذي وقع هناك في عام 1960. ومنذ ذلك الحين، قدم البرنامج الشامل للصحة (الذي يعرف اختصاراً باللغة الإسبانية بـ PIS) التغطية الطبية الأساسية لعشرات الدولة النامية. كما قدمت المدرسة الأمريكية اللاتينية للطب (ELAM)، التي أسسها كاسترو في عام 1999، التدريب المجاني لقرابة 25,000 من طلاب الطب من نحو 80 دولة نامية. علاوة على ذلك، قدمت كوبا التدريب لـ20,000 طبيب إضافي في فنزويلا.
في الوقت ذاته، قدم برنامج العملية المعجزة أو (Operación Milagro) جراحة العيون مجاناً إلى 3.9 مليون شخص في 34 دولة، بشكل رئيسي في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وأرسل لواء هنري ريف الطبي (الذي سمي تيمناً باسم الأمريكي الذي قاتل في حرب الاستقلال الأولى في كوبا) فرقاً طبيبة للاستجابة للكوارث الطبيعية وتفشي الأمراض في عشرات الدول. وفي عام 2014، اختارت كوبا 256 طبيباً من أصل الـ 15,000 الذين تطوعوا بتقديم خدماتهم للاستجابة لتفشي فيروس الإيبولا في غرب أفريقيا. وقد انضم هؤلاء إلى أفراد البرنامج الشامل للصحة الكوبي الذي كان متمركزاً هناك بالفعل.
وبعد أن سلّم فيدل كاسترو مقاليد السلطة إلى شقيقه راؤول في عام 2008، واصلت برامج المعونة الطبية الكوبية عملها، ولكن الحكومة، في محاولة لإنعاش الاقتصاد المتعثر في البلاد، بدأت تنظر إلى تقديم الخدمات الطبية إلى الدول الأخرى كفرصة لتوليد الإيرادات.
وتجدر الإشارة إلى أن لدى كوبا زهاء 90,000 طبيب وأفضل نسبة من حيث عدد الأطباء إلى المرضى في العالم. وفي عام 2011، عقب مناقشات مطولة حول سبل تحسين الأوضاع الاقتصادية، قررت الحكومة الكوبية البدء في إيلاء الأولوية للصادرات من السلع والخدمات الطبية. ونتيجة لذلك، يعمل ما يقرب من ربع الأطباء الكوبيين الآن في الخارج، معظمهم في الدول النامية.
ولا تزال كوبا تقدم المساعدات الطبية بتكلفة رمزية في كثير من الدول، لاسيما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. مع ذلك، ترسل كوبا الموظفين الطبيين للدول الغنية التي لديها قدرة أكبر على الدفع، مثل المملكة العربية السعودية وقطر. وفي مثل هذه البلدان، تتقاضى كوبا رسوماً لا تزال أقل بكثير من المعدل الدولي.
وفي البرازيل، بعد أن أخفقت الحكومة في إيجاد أطباء محليين لشغل الوظائف الشاغرة التي وصل عددها 15,500 وظيفة في الجزء الشمالي الشرقي الفقير من الدولة، نشرت منظمة الصحة للبلدان الأمريكية (PAHO) إعلاناً دولياً وتم اختيار قرابة 11,000 طبيباً كوبياً لشغل تلك الوظائف. يحصل كل طبيب على راتب قدره 1,200 دولار شهريا، بينما تحصل الحكومة الكوبية على 3,000 دولار في الشهر.
وفي الوقت الحالي، يوفر تصدير الخدمات المهنية –الخدمات الطبية بالأساس – قرابة 8 مليارات دولار للاقتصاد الكوبي، أي ضعف الدخل الذي تدره السياحة. علاوة على ذلك، يشهد قطاع السياحة الطبية إلى كوبا تنامياً، وكذلك تصنيع الأدوية وتصديرها، لاسيما إلى الدول النامية.
وفي السنوات الأخيرة، واصلت كوبا برنامجها الطبي الدولي الواسع النطاق، المستوحى من فيدل لكن المُخفف بفعل واقعية راؤول. ولا يزال البرنامج الشامل للصحة نشطاً عن أي وقت مضى في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية. ولا يزال برنامج "عملية المعجزة" يعمل في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، على الرغم من أن هناك مخاوف من احتمال تقليصه في ضوء تناقص التمويلات القادمة من فنزويلا. ولا تزال المدرسة الأمريكية اللاتينية للطب لا تتقاضى رسوماً من الطلاب القادمين من خلفيات فقيرة، على الرغم من أنها لا تطلب السداد من أولئك القادرين على الدفع طوال مدة التدريب الطبي التي تستمر ست سنوات.
وخلال العامين الأخيرين فقط، أرسل لواء هنري ريف الطبي، الذي أضحى قوامه عدة آلاف شخص، كوادر طبية للاستجابة للزلازل التي وقعت في الإكوادور ونيبال، والفيضانات في المكسيك، وتفشي مرض حمى الضنك في السلفادور، والإعصار الأخير في هايتي.
وعلى الرغم من أن تقييم تركة فيدل كاسترو هي مهمة المؤرخين، إلا أن سياسة التعاون الدولي الطبي التي تبناها قد أنقذت الكثير من الأرواح، ولن تنتهي بوفاته. وهكذا يبقى الالتزام الإنساني الأساسي بتقاسم ثروة كوبا من الخبرات الطبية ويتواصل في المستقبل المنظور. فالعالم بحاجة ماسة إليه.
انها انسانية الروح من الاب الروحي فيدل كاسترو