العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ

«الإدارة الحاقدة»: كيف يتغير العالم مع التحرك الأميركي؟

تصنيف الدول بحسب المصالح الجيوسياسية

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

كلما تحركت اميركا تغير العالم. وكلما تغير العالم، تراجع البعض، وتقدم البعض الآخر في الترتيب العالمي لمراكز القوى. ودفع البعض اثمانا باهظة، وقبض البعض الآخر المكافآت، استنادا إلى ما يقدم من خدمات لـ «العم سام». فإذا كان محظوظا (أي بلد)، فهذا يعني انه حيوي، ومحوري للاستراتيجية الاميركية، وصادف انه - ولسبب جيوسياسي - موجود على الخريطة الكبرى في الشق الاخضر (الشق الاحمر يحدد الاعداء). تندرج باكستان في الفئة المحظوظة. واذا كان سيئ الحظ، فهو حتما موجود في الشق الاحمر. وهو يؤوي عناصر من «القاعدة» أو انه، يموّل، ويدرب عناصر ارهابية من ضمن التوصيف الاميركي. تندرج معظم الدول العربية تقريبا في هذه الفئة، وتتفاوت نسبة التصنيف. فمن الدول الداعمة للإرهاب، إلى الدول نصف صديقة، إلى الدول الصديقة (على الاقل في المستوى الرسمي، اي النظام)، وحتى الوصول إلى المنظمات، الدينية منها والزمنية. اما الدول التي «تصيب الجائزة» أو «السوبر محظوظة»، فهي الدول الصديقة، والتي تفتح لها الابواب كلها، الاقتصادية، العسكرية والسياسية وفي كل زمان ومكان. وهي الدول التي تتمتع بهامش مناورة كبير جدا. وهي الدول التي تعتبر نفسها، حتى ولو كانت جغرافيا صغيرة، ان لها استراتيجية عالمية. وهي الدول التي تنتهك المبادئ والقوانين الدولية كلها من دون حسيب ورقيب. وتندرج إسرائيل بامتياز في هذه الفئة.

كيف يتغير العالم؟

تؤثر اميركا في العالم، لأنها دولة عظمى. ولأنها تملك التأثير والقدرة على التغيير.

وبسبب عدم وجود بعد آخر، تستطيع اميركا من خلاله، ان تحدد ابعادها في مجالات القوة، لتقف او تستمر في سلوكها عند الحاجة. فالبعد الآخر ضروري بحسب «الفلسفة الوجودية». لأنه العامل الاول كي يعرف المرء (أو الدولة) ذاته: «نعرف انفسنا، من خلال الآخرين».

في 7 ديسمبر /كانون الاول 1941، وقعت اول مفاجأة استراتيجية ضد الولايات المتحدة: بيرل هاربور. اعلنت اميركا الحرب على اليابان، استعملت السلاح النووي ضدها، فاستسلمت الاخيرة. حققت اميركا ايضا نصرا آخر على المانيا النازية في القارة العجوز.

منذ ذلك الحين، تبدل العالم وتبدلت قواميس الدبلوماسية. فدخلت تسميات جديدة: الحرب الباردة، الحرب المحدودة، الاحتواء، التدمير المتبادل، الضربة النووية الاولى، الضربة الثانية... الخ. كذلك الامر انتقل صوغ وصنع المفاهيم الاستراتيجية من العسكر إلى الخبراء المدنيين. وانتقل العالم، خصوصا الغربي منه، كونه خاض بين بعضه بعضا، اكثر الحروب دموية في العالم، من الحروب الشاملة إلى الحروب المحدودة وبالواسطة. فكانت كوريا، فيتنام، والكثير من الحروب العربية الاسرائيلية. بعد الحرب الثانية والانتصار الاميركي، اصبحت مساحة اللعبة الاستراتيجية محدودة. فالخوف من الاعظم كان سيد الموقف. وانتقل العالم من الحروب المباشرة، إلى الازمات وإدارتها، كوبا مثلا.

أطلق الرؤساء الاميركيون أيضا بعد الحرب الثانية، عقائد استراتيجية كثيرة لكل منها هدف معين. فكانت عقيدة ترومان، عقيدة كاتر، عقيدة ريغان... الخ. اثرت هذه العقائد على الوضع العالمي لأنها شكّلت لاميركا نبراسا يوجّهها لتحقيق اهدافها. كذلك ظهرت مع الممارسة الاميركية، نظريات جديدة ومفاهيم. في مقدمتها نظرية «الدومينو» المتساقطة.

بعد الحرب العالمية الثانية (او قبل انتهائها)، كان مؤتمر «يالطا» الذي قسّم العالم الى مناطق نفوذ بين الجبابرة. تلت الحرب الحارة، حربا باردة دامت نصف قرن تقريبا. بدأ خلال ذلك انتشار السلاح النووي بين الجبابرة من الرعيل الثاني (انجلترا، فرنسا، الصين)، حتى وصل إلى الدول من الرعيل الثالث، باكستان. ومع هذا الانتشار راحت التسميات القديمة تأخذ اهمية كبيرة، كالردع مثلا.

بعد نصرها، غيرت اميركا العالم. فراحت تخلق المؤسسات والمنظمات الدولية، على شاكلتها. فكانت الامم المتحدة، بديلا من عصبة الامم، منبرا للحفاظ على السلم العالمي. وشكلت اهم حلف عسكري في التاريخ، لردع الدب الروسي، فكان الاطلسي «الناتو». كذلك الأمر، ارادت اميركا ان يكون العالم منفتحا على بعضه بعضا بكل اسواقه. وارادت تجنب الازمات المالية في العالم، فكان صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. فسيطرت اميركا بهذا على الاسواق المالية، وعلى حركة الرساميل. ساعدت هذه الامور مجتمعة على تطوير مفهوم «العولمة»، وعلى تسريع عملية الثورة التكنولوجية في مختلف المجالات.

في 11 سبتمبر/أيلول 2001، وقعت على اميركا مفاجأة استراتيجية من نوع آخر. فمكان المعركة حاليا هو في الداخل الاميركي. والقتلى ليسوا من العسكر، هم من المدنيين الابرياء. والعدو هذه المرة، هو من نتاج السياسات الاميركية خلال المرحلة السابقة، ومن صنيعتها. وهو على غرار الشركات العابرة للقارات.

بعد هذه المفاجأة، تغيّرت اميركا مجددا ، فلا بد إذن من ان يتغير العالم. لكن الفارق هذه المرة، هو أنه لا يوجد «في الميدان إلا حديدان»، وذلك على غرار المثل الشعبي اللبناني. فهي الاعظم، ومن دون منافس. فما هي مؤشرات التغيّر العالمي؟

1. حلّ الارهاب، والعالم الاسلامي عدوين اساسيين بدل اليابان، والمانيا. يعتبر الكاتب الاميركي فرانسيس فوكوياما العالم الاسلامي، وكأنه العالم الوحيد المتبقي على سطح الكرة الذي تجمعه عقيدة واحدة مناهضة تقريبا لليبرالية. من هنا لابد من استهدافه.

2. لا يبدو ان الحرب الاميركية الحالية على الارهاب، هي من ضمن روزنامة زمنية محدودة. هي فعلا مفتوحة على الاحتمالات كلها.

3. ظهرت تعبيرات جديدة بعد 11 سبتمبر مثل «محور الشر»، «من ليس معنا، فهو ضدّنا»، «الضربة الاستباقية»، بدل «الردع والاحتواء».

4. بدّلت اميركا عقيدتها الاستراتيجية من رد الفعل، إلى الضربات الاستباقية. وبهذا، تضع اميركا العالم على اعصابه. فويل لمن يقول لا لطلبات اميركا. فهو سيمسخ وكأنه عدو، وسيضرب بسبب نواياه الجرمية تجاه أميركا فقط، وحتى من دون توافر اي دليل حسي.

5. في الحرب العالمية الثانية، حجزت اميركا حوالي 200 ألف ياباني، فقط لأنهم من اليابانيين. الآن، تحتجز اميركا العالمين الاسلامي والعربي. كما تحتجز قسما لا بأس به من العالم الغربي.

6. اطلقت اميركا بعد 11 سبتمبر مفهوم السيادة المشروطة. فلكل بلد سيادته الخاصة، إذا ضرب الارهاب الموصوف بالنعوت الاميركية، حتى ولو كان هذا الارهاب من ضمن حركات التحرر المشروعة. وإذا، تمنع او فشل اي بلد في ذلك، عندها تتدخل اميركا لتنفيذ المهمة، ضاربة عرض الحائط بمفهوم السيادة.

7. بعد الحرب العالمية الثانية، تقاسمت اميركا العالم مع باقي القوى العظمى والكبرى. بعد 11 سبتمبر، تريد اميركا السيطرة على: البحار، الاجواء الفضاء وعلى مصادر الطاقة. كذلك الامر، تهدم اميركا اسس النظام العالمي القديم كلها، لكن من دون خلق البديل. فهي تتجاوز الامم المتحدة، وألغت معاهدات كثيرة اعتبرت في وقت من الاوقات الاسس المهمة للسلام العالمي.

8. تريد اميركا حاليا ان تجعل العالم كله واحة ديمقراطية، لكن بالقوة. فهي تعتبر ان الحروب السابقة كلها، كانت بين الديمقراطيات والطغيان. وتعتقد اميركا ايضا، ان الديمقراطيات لا تقاتل بعضها بعضا. لكن السؤال يبقى، من يضمن ان الحرب ستختفي مع عالم ديمقراطي من رأسه إلى أخمص قدمه؟ بالطبع لا أحد، لأن الطبيعة البشرية لاتزال هي، هي.

9. بعد الحرب العالمية الثانية، خلقت اميركا المؤسسات والمنظمات الكبرى للحفاظ على الاستقرارين العالميين: الأمني والمالي. حاليا، تريد اميركا الاستقرار المالي، عبر سرقة ثروات الشعوب من خلال السيطرة المباشرة عليها. وتريد الاستقرار الأمني عبر الهيمنة، والهيمنة هذه لا تؤمن إلا من خلال قوة لا تضاهى، او لا يُسمح لأحد بالتجرؤ على مضاهاتها..

10. بعد الحرب العالمية الثانية، ارادت اميركا ان تبني عالما جديدا مبنيا على مبادئها الاخلاقية والاقتصادية. بعد 11 سبتمبر، تريد اميركا ان تبني العالم انطلاقا من: تغيير الانظمة المعادية، او الممانعة كحاجة استراتيجية (من هنا خوف بعض الانظمة العربية). ومن خلال دعم الانظمة الصديقة حتى ولو قامت هذه الانظمة على الدم والطغيان. فهي بدأت بيوغوسلافيا، وأفغانستان وها هي الآن تنتقل الى العراق. ومن يدري دور من بعد العراق؟

بعد الحرب الثانية، كانت اميركا مثالية في الكثير من سياساتها، وأرادت الحرب كوسيلة مرحلية لإنهاء الحروب كلها. بعد 11 سبتمبر، اصبحت اميركا «حاقدة» على العالم، وهي تريد الحرب للتشفي من هذا العالم الذي، وحتى الآن لم ير ان لأميركا رسالة كونية. فالعالم هو المسئول عن الوضع الذي وصل إليه، فلماذا لم يقرأ «المانيفست» الاميركي؟

العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً