الكلام عن تغيير خريطة الشرق الأوسط لم يعد قصرا على الغرف السرية في البنتاغون بل بدأت بعض الصحف الأميركية والبريطانية تتداوله علنا.
فهناك الكثير من الصحافيين نقل معلومات مفككة، وأحيانا متضاربة، عن الأهداف الحقيقية للحرب على العراق. وتجاوز الكلام هذه المرة حقول النفط إلى خطوط الطول والعرض وإعادة النظر في تلك الخرائط الموروثة عن الاستعمار الأوروبي القديم.
«مثلث الشر» في الإدارة الأميركية (تشيني، رامسفيلد، ورايس) يدفع الإدارة إلى الحرب والمنطقة إلى الجحيم بذريعة ان تلك الدول القائمة في المنطقة (باستثناء إسرائيل) فقدت وظائفها التاريخية ولم تعد قادرة على الدفاع عن المصالح الحيوية للغرب. فمثلث الشر يرى ان الوقت حان لسحب تلك الوكالات السياسية الحصرية وتوزيعها مجددا على وكلاء أكثر نشاطا ومعرفة بحاجات الولايات المتحدة ومجالها الحيوي (السياسي، الطبيعي) في المنطقة.
ويرى «مثلث الشر» ان الاستراتيجية العسكرية التي اتبعتها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لتفكيك السلطنة العثمانية من خلال الضغط على الحدود وخطوط التماس والجبهات العسكرية وإعادة استثمار نتائج تلك الضربات داخليا وسياسيا هي الطريق الأفضل لزعزعة المنطقة تمهيدا لظهور خريطة سياسية تسمح للولايات المتحدة باحتواء دولها الجديدة التي ستكون ضعيفة إلى حدِّ انها لا تستطيع الوقوف من دون حماية دولية تقودها الولايات المتحدة.
ومن يطّلع على الاستراتيجية الأمنية التي صاغها البنتاغون وتبناها الرئيس جورج بوش يقرأ بوضوح ان واشنطن انتقلت من الدفاع إلى الهجوم وانها باسم «الحرب الوقائية» تستطيع ان توجه مدافعها مسبقا إلى أي مكان وتحت أي ذريعة تخترعها إذا كانت بحاجة إلى اختراعها...
هذه الاستراتيجية ليست اختراعا أميركيا بل هي إعادة انتاج معاصرة لنظرية قديمة اعتمدتها الدول الكبرى في أوروبا لكسر السلطنة العثمانية وإضعافها تمهيدا لاسقاطها وتغيير خريطة الشرق الأوسط والبلقان وأوروبا الشرقية والمغرب العربي. فأوروبا آنذاك مارست ضغطها السياسي في الجبهة العسكرية وكررت السلسلة نفسها (مناوشات، حرب، تدخلات، مفاوضات، تنازلات). واستمرت تلعب لعبة الضغط العسكري والتفاوض السياسي ثم التفاوض والضغط حتى تلاشت قوى السلطنة واستنزفت ثرواتها بسبب انفاقها الكبير على بناء جيشها وتحديثه وتطويره بالرجال والمال والسلاح حتى تحافظ على مواقعها العسكرية وخطوطها الأمامية.
كل هذه المعارك الدولية التي سادت القارة على امتداد قرن من الزمن جعلت السلطنة داخليا تميل إلى اهمال مختلف الشئون الزراعية والتجارية والمالية والصناعية وغيرها لمصلحة الجيش وتعزيز قواته وقطاعاته بالمال والسلاح وآخر المبتكرات التقنية لتطوير الآلة الحربية لمواجهة المخاطر على الجبهات الامامية.
ونتيجة الضغوط الخارجية برزت التيارات القومية المتطرفة وبدأت تتجه نحو الانقطاع عن العالم. وبالغت تلك التيارات القومية (الطورانية) في التركيز على تاريخها الخاص منطلقة من مخاوفها. فتحولت النزعة الطورانية مع الايام إلى نوع من الهواجس المرضية التي ترى في العالم مجموعة أعداء وفي الولايات العربية آنذاك حفنة من المتآمرين.
والآن تكرر الولايات المتحدة الأمر نفسه. فهي بضغوطها القهرية على المنطقة منذ العام 1990 شجعت تيارات التطرف والنزعة المنغلقة على النمو. فهذه التيارات باتت ترى في العالم مجموعة أعداء وجواسيس لا يريدون إلا الشر ويطمحون إلى سحق المنطقة وإعادة إنتاج خريطتها السياسية تمهيدا للسيطرة عليها اقتصاديا وجغرافيا.
فهل هذه استراتيجية أميركا وهي تعزيز التطرف حتى تلاقي المبرر السياسي للسيطرة على المنطقة؟
الإجابة قد لا تتأخر وربما نسمع بعض عناوينها في الأسابيع المقبلة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 29 - الجمعة 04 أكتوبر 2002م الموافق 27 رجب 1423هـ