قد يخلط البعض بين مفهوم النمو الاقتصادي، ومفهوم التنمية الاقتصادية، فالنمو مهما كان حجمه ونسبته يبقى مؤشراً لتطور العملية التنموية واستغلال الموارد المتاحة، ولكنه يبقى أيضاً متغيراً لا يعكس الاستدامة في النمو والتنمية، وقد لا يكون النمو الذي يحقق طموح المجتمع.
فالنمو الاقتصادي ليس بالضرورة نمواً متوازناً؛ بل قد يكون طفيلياً يضر بما حوله من كيانات التي قد ينمو على حسابها. فعلى سبيل المثال قد يحقق اقتصاد ما نمواً هائلاً وسريعاً ليس بسبب ارتفاع في الطلب أو الانتاج المحلي، وإنّما بسبب ارتفاع في أسعار المواد الأولية التي يتم تصديرها للخارج، والتي تمثل النسبة الأكبر من صادرات الدولة، فهذا لا يعتبر نمواً فعلياً يساهم في زيادة القاعدة الانتاجية، أو يؤدي إلى خلق فرص عمل دائمة. وقد تحقق دولة ما نمواً اقتصادياً كبيراً؛ ولكن بتكلفة باهظة لا يتحملها الاقتصاد على المدى البعيد، مثل أضرار بيئية أو زراعية. ومثل هذا النمو قد لا يتفاعل معه أفراد المجتمع بشكل يساعد على استمرار هذا النمو.
أما مفهوم التنمية الاقتصادية فهو «زيادة قابلة للإستمرار في مستويات المعيشة، وتشمل الاستهلاك المادي والتعليم والصحة وحماية البيئة»، وتشمل أيضاً «المساواة الأكبر في الفرص والحريات السياسية والمدنية»، أي أن الهدف الشامل للتنمية هو زيادة الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية للجميع». بهذا المفهوم للتنمية الاقتصادية يمكن القول أولاً: إن التنمية المستدامة التي تضمن مستقبل حقوق الأجيال الحالية والقادمة، لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تنمية اجتماعية فعلية يتطور بها المجتمع علمياً وصحياً وفكرياً واقتصادياً؛ وثانياً: لتحقيق تنمية فعلية ينبغي أيضاً تفاعل أفراد المجتمع مع السياسات والقوانين الاقتصادية، أي مع النظام الاقتصادي الذي يراعي ويضمن حقوق كل فرد من أفراد المجتمع وله رؤية مستقبلية. وعادةً ما يكون الفشل، هو مصير السياسات التي لا يتفاعل معها المجتمع، وبقاء هذه السياسات يعني استمرار استنزاف الموارد المتاحة وعدم ازدهار المجتمع.
إن التنمية الاجتماعية التي نقصدها هي تنمية طاقات الفرد الفكرية والجسدية والمالية إلى أقصى حد مستطاع. وتعمل هذه التنمية على محاور معينة هي: تحقيق التوافق الاجتماعي، تنمية طاقات الفرد، إكساب وتعميق القيم الروحية بما يؤدي إلى إحداث تأثيرات عميقة وإيجابية في بناء الشخصية، وبالتالي في أنماط الممارسات السلوكية، تأكيد الأمن والتأمين الاجتماعي، تحقيق العدالة وإتاحة سبل تكافؤ الفرص. وترتبط التنمية الاجتماعية بمفهوم التنمية البشرية التي ترتكز عليها التنمية الاقتصادية. فالتنمية البشرية تعنى بدعم قدرات الفرد وقياس مستوى معيشته وتحسين أوضاعه في المجتمع.
ومن هذا المنطلق ولغرض زيادة الترابط بين التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، فعلى السياسة الاقتصادية أن تهدف إلى تحقيق تغير اجتماعي للواقع التاريخي الذي يعيشه المجتمع، ما يعني تغييراً في أنماط السلوك الاجتماعي، وتغييراً في التجمعات الفكرية والقيمية التي تعوق التحديث والتقديم.
لا يمكن لأي اقتصاد كان أن يتباهى بتحقيق معدل نمو اقتصادي كبير، في ظل وجود مؤشرات واضحة لتخلف المجتمع، كانتشار الفقر والأمية الثقافية والفكرية، وغياب الإبداع في المجتمع، وعدم تفاعل المجتمع مع التغيرات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية.
الاقتصاد وبجميع مكوناته وسياساته، يهدف إلى تنمية أفراد المجتمع تنمية فعلية لا وهمية، ويلبي احتياجاته الحالية والمستقبلية بمختلف أنواعها. إن الهدف الأساسي للتنمية الاقتصادية هو رفاهية الإنسان ورفع مستوى معيشته، كما أن الهدف الأساسي للتنمية الاجتماعية هو تحقيق أقصى استثمار ممكن للطاقات والإمكانات البشرية الموجودة في المجتمع. فالتعليم الذي يعتبره الاقتصاديون وسيلةً مهمةً لتحقيق أهدافهم هو هدف السياسة الاقتصادية قبل الاجتماعية، فهو القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها التنمية البشرية، والتي هي عبارةٌ عن عملية توسيع للقدرات الأساسية تؤهل القوى البشرية من بلوغ مستوى راقٍ من الأداء البشري والإنجاز الأساسي، وتتمثل هذه القدرات في وضع صحي متطور، ومستوى عالٍ من التعليم والثقافة.
وطبقاً لنظرية النمو الجديدة، هناك ارتباط وثيق بين التنمية البشرية والنمو الاقتصادي، حيث أن الناس هم القوة الرئيسية المحركة للتقدم الاقتصادي الذي يمتلك عناصر الاستدامة، وهو أساس هذا النمو، والمحدد الرئيسي لنوعيته، فلا يمكن تحقيق أحدهما من دون الآخر. فالنمو الاقتصادي مثلاً يولّد عمالةً متعلمةً راقيةً تساعد على تحقيق إنتاجية عالية؛ وأمناً يضمن الاستقرار البشري؛ وحريةً تعزّز التقدم البشري؛ وعدالةً تحمي الحقوق الإنسانية والاجتماعية وتضمن مشاركةً أوسع من جميع فئات المجتمع؛ وتماسكاً اجتماعياً يدعم ويضمن مستقبل الأجيال القادمة.
ويأتي دور التنمية البشرية والاجتماعية في الاحتفاظ بالنمو الاقتصادي، وذلك من خلال الاستخدام الأمثل لعوامل الإنتاج، حيث أنه باستطاعة العمالة المتعلمة المثقفة أن تستخدم هذه العوامل بكفاءة عالية، وأن تبتكر وسائل إنتاجية أفضل تؤدي إلى رفع كفاءة عوامل الإنتاج .
ولأهمية هذه العلاقة ودورها الاستراتيجي، أصبح من الضروري لمتخذي القرار الاقتصادي التأكد من وجودها، حيث أن النمو الذي لا يرتبط بالتنمية الاجتماعية يعتبر نمواً غير قابل للإستمرار؛ لأنه يرتكز على قاعدة ضعيفة لا تتحمل نتائج التغيرات والصدمات الاقتصادية، كما أنه يفتقر إلى الإدارة الفعالة الماهرة القادرة على إيجاد نمو اقتصادي ينتفع به المجتمع. إن التأكد من وجود هذه العلاقة هو عملية تقييم للنمو الاقتصادي، وذلك من خلال معرفة اتجاه النمو، ومدى تأثيره على ذوي الدخل المحدود، ومعدل النمو في نصيب الفرد من الدخل، وعدد فرص العمل التي يخلقها هذا النمو، وحجم مشاركة المجتمع في التنمية، بالإضافة إلى معرفة مدى مساهمة النمو في تطوير الوعي الثقافي.
ينبغي أن لا ينظر إلى النمو الاقتصادي كغايةٍ في حد ذاتها؛ بل وسيلة لتحقيق رغبات المجتمع. وقد أثبتت التجارب الدولية بأن النمو ذا المعدلات العالية غير المتوازن ليس له مستقبل ويحمل في طياته سلبيات كثيرة، وذلك لأنه لا يتيح فرص عمل للأفراد ولا يحمي الفقراء. ويتواجد هذا النمط من النمو في الكثير من البلدان التي يرتفع فيها متوسط معدل البطالة وينخفض فيها متوسط الدخل، ويكون المستفيد الأكبر من النمو هي الطبقة الغنية التي تمثل نسبة قليلة من المجتمع. أو تلك الدول التي يتميز فيها النمو الاقتصادي حسب تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة «النمو الأبكم»، وهو النمو الذي تتقلص فيه المشاركة الاجتماعية والاقتصادية، وذلك لمنع الأصوات البديلة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"العدد 5202 - السبت 03 ديسمبر 2016م الموافق 03 ربيع الاول 1438هـ
مقال مفيد جدا، لكن لا حياة لمن تنادي