«اسمعْ! إذا كانت النجوم تضيء...
هذا يعني هناك من يحتاجُ إليها.
هذا يعني من الضروري، أن تتسلّق، في كلّ ليلةٍ، نجمة واحدة - على الأقل - فوق قمّة البنايات».
ماياكوفسكي
في خطابه الأخير أمام مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي، الذي عُقد في أبريل/ نيسان 2016، أعلن فيدل كاسترو، في غرفةٍ تزاحمت فيها المشاعر الحزينة، بكل جرأة: «قد تكون هذه هي المرّة الأخيرة التي أخاطبكم فيها... قريباً سأبلغُ التسعين من عمري... سأرحلُ مثل كلّ الذين رحلوا».
كاسترو، الذي اعتاد الشعب الكوبي على الاستماع إلى خطبه الطويلة، التي تصل مدتها إلى ما بين أربع وثماني ساعات، ألقى خطاباً مقتضباً لم تتجاوز مدته عدة دقائق. في هذه الدقائق القليلة أكدّ أن موته أمرٌ محتومٌ، بينما الأفكار الشيوعية ستبقى في ديمومةٍ أبدية.
كاسترو، الشيخُ الغارقُ في الأوهام، بقدرٍ من الإيمانية المفرطة، كان يبشرُ بآخر أمانيه قبل الموت. ويقول لنا بأسلوبٍ غير مباشر: لقد انتهى القرن العشرين. هذا أمرٌ مؤلمٌ، لكنها الحقيقة، هذا أفول القرن العشرين، مثلي أنا تماماً.
فيدل كاسترو لم يكن متناغماً مع القرن الحادي والعشرين، فهو يدركُ أنّه لم يعد في الزمن المناسب، ولا المكان المناسب. وهو المجادل، والمناضل، الذي يملكُ القدرة على الخطابة لثماني ساعات متواصلة.
لقد فهم كاسترو جيداً، كما فهم الفيلسوف ماريو ترونتي، أنّه خرجَ من قرن الهزيمة الكبرى، وانضمّ إلى حزب المهزومين، المتشبثين بالأطياف السالفة، أو بأثر الهزيمة نفسها.
لم يبقَ من القرن الماضي سوى الأطياف، التي لم تصفِ حساباتها مع الواقع، وستبقى جاثمة على صدورنا إلى أن نفكّك اللغز المبهم العظيم.
أدرك كاسترو أن الخطب الطويلة، والكلمات الحماسية القوية، لم تعد مناسبة لزمن ما - بعد - الهزيمة. الكلمات القليلة لا تعبّر إلا عن القليل (لكن هناك الكثير في القليل أيضاً)، ليس هناك ما بقي للحديث عنه. كما لو كان يقول إن دوري انتهى... لقد قمتُ بما كان عليّ قيامه، الآن أخلوا الكراسي من أجل الشباب والجماهير، الجماهير التي تعلم إلى أين وجهتها.
تختلف مفاهيم التفاؤل والتشاؤم في القرن الحادي والعشرين تماماً عمّا كانت عليه في القرن العشرين. وهو يقرُّ بأنّ العالم كله ينحدر نحو المجهول، إلا أنّ الشيوعية لابد أن تنير الطريق في المستقبل.
خلافاً لاعتقاد الكثيرين هذه ليست مقولة تفاؤلية، بل إنها تشيرُ إلى احتماليّة حدثٍ تفاؤلي فيه يتغيّر المستقبل. لكن، فيدل كان سيضيف أنّ الحاضر يبقى حاضراً، كما - هو... بتشاؤميته - إن شئت. لا مجال هنا لتفسيرٍ إيماني لكلمات كاسترو.
في ديكاتومية التشاؤم والتفاؤل، صرّحَ تروتسكي في مطلع القرن العشرين، بأنّ القرن الجديد يقول للمتفائل: الموت لليوتوبيا!، الموت للإيمان!، الموت للحب!، الموت للأمل!، بينما يجيبه المتفائل: أنتَ لستَ إلا الحاضر!. الآن غدا هو الماضي، وتصرخُ أطيافه: مات الإيمان، مات الحب، مات الأمل!. أيعني ذلك أن نجيبه: أنتَ لستَ إلا الماضي. قد يجيبُ كاسترو بلا مبالاة، تبعاً لفالتر بينيامين، أن ما تبقّى هو فتات الماضي، ولا يهمّ كثيراً ما هو هذا الفتات، ولا يقوى على حمل الجماهير نحو المستقبل، الذي لا يمكن التنبؤ به. لكن التاريخ يمضي وسيحمل معه كل الفتات - النافعة والضارة، والمشاعر - السعيدة والتعيسة، والأحداث - الحسنة والسيئة، نحو المجهول. إذا أردتَ أن تتفاءل - قد يواصل فيدل - أجمع ما يمكنه فتح احتماليات متعددة لخوض إحدى الطرق التي لم يعبرها أحد.
لن تكون مرثية كاسترو على شكل مدحٍ خالص أو ذمٍ خالص. أننا فقدنا نجمة. أنتَ لا تعرف هذه النجمة جيداً... لكنها تبقى واحدة. ومع فقدانها نحن نودعُ زمناً بأكمله، نحو قرنٍ جديدٍ مجهول.
تشرح أغنية «البالديراما» للمناضلة الأرجنتينية «مرسيديس سوسا»، التي استخدمت في فيلم «تشي» عن حياة جيفارا، هذا المفهوم على نحو دقيق:
(في جدول النهر،
يشرأبُ النهار، شيئاً فشيئاً...
يودع المغنون الليل...
في حانة البالديراما...
تلك الجدران،
تهزّها الطبول التي تسمعُ من بعيد،
يُشعل المغنون ناراً
بشراراتٍ تتطاير من الغيتار
آهٍ يا نجمة!،
وحيدةٌ أنتِ في برعم النهار،
ماذا سيحلّ بنا... من دون حانة البالديراما؟
يبدأ أحدهم بالغناء
يشاركه السائق،
وفي كلّ قدح نبيذ
تكمن نجمة النهار الراقصة،
آه يا سامبا الفجر،
هذا هو كأسٌ من أجل حانة البالديراما،
المغنون يودعون الليل المحتضر،
وينحبون حين يحلّ النهار
آهٍ يا نجمة!،
وحيدةٌ أنتِ في برعم النهار،
ماذا سيحلّ بنا... من دون حانة البالديراما؟)
فيدل كاسترو هو نجمة القرن العشرين الأخيرة، الرمز الباقي الأخير من قرنٍ لايزال مثيراً للجدل. مثلما كانت حياته مثيرةً للجدل، الآن، لا نفعَ من الحديث عن منجزاته أو أخطائه، لندع ذلك الأمر للساسة الذين يناقشون الأمور الفارغة.