لا يمكن تصور ما الذي حدث لعقلية الإدارة الاميركية، تحديدا بعد قيام الرئيس جورج دبليو بوش بالموافقة على مشروعات وقرارات الموازنة لوزارة الخارجية، برغبة ممهورة من الكونغرس.
ثم، ماذا يفيد واشنطن من استمرار ضغوطها السياسية والعسكرية على دول المنطقة، بل وجعل فلسطين والسلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في بؤرة الموت تحت آلة العسكرتاريا الاسرائيلية المتطرفة.
التحدي الاميركي للأمة العربية والاسلامية، اختبار، ليس المقصود منه «مدينة القدس» أو محاولة نهاء وتصفية القضية الفلسطينية على الطريقة الأميركية، بل هو تحد يعيد اجواء الصراع الايديولوجي بين الشرق والغرب، عبر المواجهة العقائدية، لأن للقدس، عند اتباع العقائد الدينية الاسلامية والمسيحية واليهودية، اكثر من مكانة مقدسة، او دلالة دينية. فهي ترتبط عند المسلمين، بكونها نقطة الالتقاء بين الارض والسماء، لها ومنها تتآلف القلوب وتتابع مواكب، مدارج الشهداء دفاعا عن الارض والمقدسات والناس.
والقدس - ايضا - تقف إلى جوار العقيدة المسيحية، التي تؤمن بالحق والعدل بعيدا عن أي صراع للقوى المتناحرة، فالمسيحية العربية، الشرقية، مازالت تنافح بصلابة عن «القدس» كمدينة مقدسة، عاصمة عربية للدولة الفلسطينية، وكل ما هو مقدس وإنساني وشرعي - قانوني.
الجدل الدولي، بعد موافقة الرئيس بوش على القانون الاخير، يعيد إلى الاذهان محاولات غيره من الرؤساء، للبحث في كون القدس عاصمة لدولة «إسرائيل»، وذلك استمرارا للدعم الاميركي المحموم للدولة العدوانية الارهابية الاولى في المنطقة، وبالتالي، فإن نتائج هذا الجدل، على الاقل بالنسبة إلى أوروبا وإلى مجموعة الدول الاوروبية الداعمة للعملية السلمية، ستكون وخيمة على المسارات والمفاوضات والمساعي والمبادرات كافة.
واعتقد، ان الجدل الدولي، لن يبقى في حدود اوروبا، أو اميركا فقط. فالمقبل ، على مستوى الشارع العربي والاسلامي والآسيوي تحديدا، سيكون، من نوع الجدل الصاخب، العنيف. فالذي يتبدى ان الادارة الاميركية والرئيس بوش الابن، بات محتاجا إلى عمليات منظمة، تلتقط الاضواء عن مشروعه الساخن، الواضح باتجاه شحن قواته وجنوده من اجل الحرب على العراق، واشعال فتيل النار التي ستمتد إلى الجميع من دون استثناء، وصولا إلى دمار شامل لكل ثوابت الواقع الراهن عربيا واسلاميا.
اما لماذا «القدس» ولماذا التحدي بلعب مثل هذه الورقة في مثل هذا الوقت، فالامر، تحركه حال «ادارية - قانونية» رسمتها اجهزة الاستخبارات والتحقيقات الاميركية، لتضع دول وقادة المنظمة امام استحقاقات جديدة، تشغلهم، والعالم عما يحيق بالعراق، وغيره من الدول التي تجاوره، لأن الحرب، اذا بدأت، فإن «الحريق» يصل إلى الكثير من الملفات التي تريد الولايات المتحدة الاميركية اغلاقها على طريقة رعاة البقر (الكابوي) ومنها:
اولا: تصعيد «الحرب على الارهاب» بحيث تطال، هذه الحملة كل القوى والتنظيمات السياسية والدينية والاجتماعية العربية - الاسلامية.
وثانيا: محاولة اعادة الاضواء إلى اتحاد دول الشرق الاوسط، ليكون البديل المشروع، لجامعة الدول العربية، ما يؤدي إلى دخول إسرائيل في مثل هذا الاتحاد، وانهاء ميثاق الجامعة العربية، وكل قواه القومية والتنظيمية والتشريعية التي تقف امام المشروع الصهيوني.
وثالثا: اعادة النظر في الجغرافيا السياسية لدول المنطقة وخصوصا الخليج العربي والجزيرة والعراق، وربما معظم دول شمال افريقيا.
والخطط في هذا الامر، معدة، بل وتحتمل عشرات البدائل السياسية والاجتماعية و... حتى الدينية.
ويأتي الحديث عن النظام العالمي واشكالية القطب الواحد، القوي عسكريا واقتصاديا، في المقام الرابع من اهداف هجمة الادارة الاميركية على دول المنطقة، ومحاولة ترسيخ البدائل الكثيرة لانماط الحياة والاقتصاد والمجتمع المدني، اضافة إلى نشر العولمة والخصخصة ودفع آلياتها إلى المقام الاول في الرعاية والدعم والاعلام والثقافة.
اما غير ذلك. فإن قضية القدس، ستكون بالنسبة إلى المجموعة العربية، وبالتالي إلى الدول الاسلامية، وحتى إلى الاتحاد الاوروبي وغيرها من التكتلات الدولية، مجرد «بالون اختبار» لما سيكون عليه اثر ملفها، على المستوى العربي والعالمي. وهل سيقبل العالم، التفسيرات والدفوع الاميركية عن القرار، وبالتالي: تناسي ما يمكن ان تستفيد منه، أو تستثمره اسرائيل، عالميا، من مثل هذا القرار، لانهاء الصراع الفلسطيني على طريقتها، كدولة عبرية، تساهم مع الولايات المتحدة في اجتثات جذور الارهاب، والتي ارادت اميركا، مثل هذه الخطوة، لأن فيها، غطاء اضافيا لعملياتها المقبلة في العراق، وهي التي ستكون بوابة الحريق لكل مقدرات هذه الامة، بل انها - الامة - ستعود إلى دبلوماسية الصفر، لاقناع العالم بالحقوق الوطنية والقومية واستحقاقات العلاقات الدولية.
تناست الادارة الاميركية - قصدا و / أو عمدا - ثوابت قانونها ومنطقها العالمي الداعم للديمقراطية وحق تقرير المصير، لتخوض حربا خفية مع الشعب الفلسطيني عبر بوابة القدس، في الوقت الذي أصبحت فيه السلطة الوطنية الفلسطينية على حافة النهاية نتيجة سنوات من الدمار لمقدراتها بيد الجيش الاسرائيلي وارهاب الدولة والكيان الاستعماري، الذي تدعمه الادارة الاميركية وتسير وفق خططه لتوجيه عملياتها في دول المنطقة... وورقة القدس، لن تسقط بسهولة، ربما حمام الدم آت، وأعتقد انه سيتزامن مع حمام دم آخر في العراق، وغيره من الاماكن
العدد 28 - الخميس 03 أكتوبر 2002م الموافق 26 رجب 1423هـ