على رغم أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في المغرب لم تحدث انقلابا في موازين القوى الحزبية التقليدية، فإن التقدم الكبير الذي حققه (حزب العدالة والتنمية) باحتلاله المرتبة الثالثة بعد الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال قد فاجأ الكثيرين، وطرح من جديد ملف الإسلاميين ومستقبلهم السياسي في هذه المملكة التي كان رجال الحكم فيها يعتقدون إلى فترة قريبة بأن بلادهم ستبقى في منأى عن ظاهرة (الإسلام السياسي) التي أقضت مضاجع الكثير من الأنظمة العربية، ومن بينها معظم أنظمة دول المغرب العربي. أما اليوم، فقد بدأت النخبة المغربية تتعامل بكثير من الجدية وربما التوتر مع هذه النتائج التي تحققت في ظرف دولي تكثفت فيه الحملة على الإسلاميين، والتشكيك في نواياهم، واعتبارهم الخطر الأول على الأمن والاستقرار في العالم. فما هي العوامل التي أدت إلى انتصار هذا الفصيل الحزبي الإسلامي الذي لا يحتل المرتبة الأولى داخل خريطة القوى السياسية الإسلامية في الساحة المغربية؟.
المملكة المغربية بلاد تتمتع بموقع استراتيجي متميز وباستقرار سياسي على رغم التفاوت الاجتماعي بين طبقتيه الرئيسيتين، وتتمتع فيه المؤسسة الدينية بحضور قوي. وإذ تعرض الملك الراحل الحسن الثاني إلى أكثر من محاولة للإطاحة به وتغيير النظام، لكن سرعان ما قامت الأحزاب السياسية، بما في ذلك تنظيمات أقصى اليسار، بمراجعة مواقفها والاتفاق على اعتبار الملكية من ثوابت النظام السياسي المغربي. المطلب الأساسي المطروح في الساحة السياسية خلال السنوات الأخيرة لا يتعلق بإلغاء الملكية، وإنما بتحوليها إلى ملكية دستورية تكون قريبة من المثال الإسباني. هذا الطابع الديني للحكم، وشبه الوفاق الوطني حول أهمية استمراره، هما اللذان مكنا من حدوث انتقال هادئ للسلطة، وأشعرا الجميع بأن الملكية ليست في خطر، وأنها ضامن رئيسي في الحد من انتشار الإسلاميين، أو على الأقل الحيلولة دون انزلاقهم نحو الراديكالية.
من سيد قطب
إلى الانتخابات
على رغم كل ما سبق ولدت ظاهرة الإسلام السياسي منذ نهاية السبعينات، حين تأثرت المجموعات الأولى من الشباب الإسلامي بالإخوان المسلمين، وخصوصا فكر سيد قطب. كانت بداية عنيفة، إذ سرعان ما دخل هؤلاء في مواجهات حادة مع طلبة اليسار في الجامعات، ثم فجأة اتهمت النواة الأولى للحركة التي كانت تحمل اسم «الشبيبة الإسلامية» باغتيال أحد قادة اليسار «بن جلون»، فانتصبت كالعادة المحاكمات، وبدأت رحلة التيه. بعد سنوات قليلة قررت مجموعة من الأعضاء الانفصال عن التجربة الأم، بعد أن قامت بمراجعات فكرية وسياسية وتنظيمية. وبعد محاولات للبناء التنظيمي وجدت صعوبة في الحصول على اعتراف قانوني، توحدت مجموعتان كانتا متنافستين ضمن تنظيم أطلق عليه اسم «حركة التوحيد والإصلاح»، التي اقتربت بدورها من شخصية وطنية معروفة تملك ترخيصا قانونيا لحزب ضعيف جدا، وقررت الالتحاق به كما صنع جزء من إخوان مصر مع زعيم حزب الشعب إبراهيم شكري، وأصبح الحزب يحمل اسم «حزب التنمية والعدالة»، وهي تسمية خالية من أية صفة دينية.
الوجه الآخر من الظاهرة
في الأثناء، وبعد قيام الثورة الإيرانية، حدثت نقلة فكرية عند شخص كان معروفا بتوجهاته الصوفية، وهو الشيخ عبدالسلام ياسين الذي قرر فجأة توجيه رسالة جريئة إلى الملك الحسن الثاني تضمنت انتقادات لاذعة وغير مسبوقة. وكانت تلك بداية تشكيل حركة جديدة تحمل اسم «العدل والإحسان»، لكن مؤسسها حافظ على رفضه لكل أشكال الاندماج في الخريطة الحزبية القائمة، منتقدا كل أطرافها، غير المؤمنة بمنهج التحول الديمقراطي. ونظرا إلى طابعها الثوري وقوة الشخصية التي يتمتع بها شيخها فقد نجحت هذه الحركة في استقطاب العدد الأوسع من شباب الحركة الإسلامية، من دون أن يصبح لهم وزن انتخابي، نظرا إلى مقاطعتهم كل الانتخابات التي جرت في السنوات الأخيرة، خلافا لبقية المجموعات الحركية التي أصبحت تراهن على التغيير من داخل قبة البرلمان.
أزمة المعارضات على رغم تشتت ساحة الإسلام الحركي، واختلاف استراتيجيات العمل بين أهم فصائلها، حصد حزب «العدالة والتنمية» الحديث التكوين 38 مقعدا، وكاد يتساوى مع حزبي (الاستقلال) و(الاتحاد الاشتراكي) اللذين مضت على تأسيسهما عشرات السنين، ويتمتعان بخبرات واسعة في العمل السياسي، ويضمان نسبة واسعة من أفضل كوادر المجتمع المغربي، فكيف حصل ذلك؟.
يعود الأمر إلى عدة أسباب من أهمها:
- الأزمة الهيكلية التي تمر بها أبرز الأحزاب السياسية المغربية. هذه الأحزاب التي لعبت دورا مهما في مرحلة المقاومة الوطنية، ثم قادت مرحلة النضال الديمقراطي وقدمت تضحيات كبيرة دفاعا عن الحق في التنظيم والتعبير والتعددية. وهو ما أكسبها صدقية واسعة وحضورا ملموسا في أوساط الشعب المغربي. استمر ذلك إلى أن جاءت الانتخابات التشريعية السابقة (العام 1997)، التي على رغم التشكيك في نزاهتها فإن الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان مشغولا قبل وفاته بتهيئة مناخ سياسي أفضل لابنه، عرض على قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي تشكيل الحكومة بحسب شروط. وانقسمت يومها الساحة بين مؤيد ورافض. وبعد تردد ونقاشات واسعة أدت إلى تفجير كثير من الصراعات، قبل عبدالرحمن اليوسفي العرض الملكي مع عدة تعديلات واتفاقات ضمنية، كان من بينها إقالة وزير الداخلية السابق الذي كان معروفا بعدائه الشديد للديمقراطيين والمتهم بملفات التعذيب والفساد.
وهكذا انتقلت ما كان يطلق عليها أحزاب الكتلة ذات التوجه الديمقراطي والكثير من فعاليات المجتمع المدني من موقع المعارضة إلى موقع السلطة. حصل ذلك في سياق وضع اقتصادي شديد الصعوبة وضمن فريق حكومي كان شديد التنوع من حيث الولاءات الحزبية، فكانت النتيجة أنه على رغم تحقيق بعض التقدم في معالجة عدد من الملفات الدقيقة، وخصوصا في مجال دعم الحريات وحقوق الإنسان، فإن اليسار وجد نفسه ينفذ برامج وتوصيات البنك الدولي، فأثر ذلك على صدقية القيادات الحزبية، وسرع في إحداث عدة انشطارات مهمة داخل حزب كبير مثل حزب الاتحاد الاشتراكي الذي خسر جناحه النقابي. وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك سلبيا على المكاسب الانتخابية لهذا الحزب وكذلك كل تنظيمات اليسار الذي زاد انهيار الكتلة الشرقية من تعميق أزمته الأيديولوجية.
- العامل الثاني الذي زاد في إرباك الطبقة السياسية الحاكمة، هو النسبة المحدودة للإقبال على الاقتراع. فبينما توقع رئيس الحكومة أن تسجل الانتخابات رقما قياسيا لا يقل عن 90 في المئة جاءت النسبة بعيدة عن ذلك حيث لم تتجاوز 52 في المئة أي أن نصف المسجلين في القائمات الانتخابية احتفظوا بأصواتهم، ولم يهتموا بكل الجهود التي بذلتها الحكومة لكي تجعل من تلك الانتخابات محطة تاريخية في شفافيتها وفي نسبة المشاركة فيها.
- ثالثا النتائج العكسية التي أعطتها الحملة الانتخابية التي قادتها دوائر الاتحاد الاشتراكي ضد أنصار حزب «التنمية والعدالة»، والتشكيك في نزاهتهم وأمانتهم وولاءاتهم. وحاولت الحكومة استغلال قضية ما سمي باكتشاف الخلية النائمة لتنظيم «القاعدة» واعتقال تنظيمي (التكفير والهجرة) و(السلفية الجهادية)، لتشن هجوما إعلاميا كاسحا على ظاهرة الإسلام السياسي، لتحد من امتداداتهم الشعبية. وما لم تدركه هذه الدوائر أن الحملة العالمية التي تقودها الولايات المتحدة ضد خصومها من الإسلاميين والراديكاليين، وخلطها العشوائي بينهم وبين الإسلام، أو بينهم وبين كل الأطراف ذات الخلفية الإسلامية، قد أدى إلى نتائج عكسية في أكثر من بلد، وفي أكثر من تجربة. وهو أمر حاول أن يستوعبه قادة حزب الاستقلال، الذين رجعوا إلى تراثهم الأيديولوجي الذي خلفه مؤسس الحزب علال الفاسي، فاختاروا الميزان شعارا لحملتهم، وذكروا أنهم يقصدون به الإسلام.
الإسلاميون والمحافظة
على الديمقراطية
لم يتغير المشهد الحزبي المغربي بشكل جذري، فالحكومة المقبلة لن تكون بيد الإسلاميين، إذ سيواصل الاتحاد الاشتراكي قيادتها لخمس سنوات أخرى. لكن الإشكال الأول الذي يخيف المغاربة واستفاد منه الإسلاميون خلال الانتخابات الأخيرة، يتمثل في الصراع الدائر منذ مدة بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. وقد بينت نتائج الاقتراع العام أنهما متقاربان من حيث الوزن الانتخابي، وأن التنسيق أو التحالف بينهما شرط ضروري للحفاظ على التوازنات السياسية العامة في البلاد، لكن الخلافات تعمقت بينهما وبلغت حد المواجهة والتراشق المباشر أثناء الحملة الانتخابية. فهل سيتمكنان من حسن إدارة العلاقات بينهما في المستقبل لحماية التعددية وتوفير مساحة زمانية لولادة أحزاب جديدة؟
من جهة أخرى، لا يملك الإسلاميون أية خبرة في تسيير شئون الحكم، كما أن برنامجهم الحزبي لا يتضمن حلولا واضحة وواقعية لمواجهة التحديات الخطيرة التي يعاني منها المغرب، خصوصا ما يتعلق بالمسائل الاقتصادية، فهل سيحسنون التعامل مع دقة المرحلة، ويكونون عنصر نصيحة وإضافة، ويبذلون جهودهم العملية والفكرية لترسيخ المعارضة الديمقراطية ودعم التجربة التعددية مع حقهم في تنضيج أطروحاتهم وتأهيل هياكلهم الحزبية للقيام بدور البديل السياسي، أم سيكررون ما فعله إخوان لهم في تجارب كثيرة حين اكتفوا بعدد من المسائل ذات الطابع الأخلاقي، ولم يدركوا طبيعة المشكلات التي يعاني منها مواطنوهم في مرحلة العولمة التي لا ترحم ولا تسعط أصحاب الأيديولوجيات أية فرصة للمقاومة، وأرهقوا أنفسهم ومجتمعاتهم في معارك هامشية ضد ما يطلقون عليه الجبهة العلمانية؟.
الأكيد أن ما يحسب لفائدة قيادة حزب «التنمية والعدالة» قرارها عدم التوسع في الترشحات تجنبا لما أسمته بورطة الاكتساح، وحرصا على عدم تكرار التجربة الجزائرية الأليمة، ومن جهة أخرى ضرورة الاعتراف بأن بلدا عربيا مثل المغرب قد نجح في تنظيم انتخابات ديمقراطية ونزيهة وذات شفافية، أثبتت بأن التعايش ممكن بين التيار الإسلامي وغيره من التيارات الديمقراطية والعلمانية، إذا صدقت النية، وتم احترام قواعد اللعبة، وضمنت الحقوق والحريات الأساسية، وتوافر الوعي بحماية المصلحة الوطنية، وتم الاحتكام لصندوق الاقتراع
العدد 28 - الخميس 03 أكتوبر 2002م الموافق 26 رجب 1423هـ