في مثل هذا الشهر قبل 76 سنة أعلن كمال أتاتورك تركيا جمهورية علمانية وأنهى تاريخها العثماني الذي استمر قرابة 800 سنة شهدت خلاله تلك الامارة الاناضولية أعلى درجات التقدم والرقي واتسعت اطرافها عربيا لتشمل بلاد الشام (1516) ومصر (1517)، وأوروبيا وصولا إلى حدود فيينا (النمسا) والبوسنة على البحر الادرياتيكي قبالة البندقية في ايطاليا.
شكل القرار الاتاتوركي ضربة كبرى لكل الآمال والاحلام التي عقدت على التيار الحداثي (العلماني) الذي شق طريقه وسط الصراع على السلطة في اسطنبول وقام برعاية من دائرة السلطنة نفسها. فالقرار لم يكن البداية بل كان نهاية سلسلة خطوات باشرتها جمعية الاتحاد والترقي (القومية الطورانية) في مطلع القرن الماضي ضد السلطان عبدالحميد الثاني. بدأت الخطوة الأولى بالانقلاب على السلطان في العام 1907 وعزله في العام 1908 بتشجيع من الدول الأوروبية التي وجدت في ضعف السلطنة (الرجل المريض) مناسبة للانقضاض على اطرافها الأوروبية أولا (حركات الاستقلال البلقانية)، وعلى أطرافها العربية ثانيا (دول المغرب العربي) وصولا إلى مصر وقناة السويس.
كانت الخطط الأوروبية آنذاك شديدة البساطة. تحرض وتموّل وتسلح بعض الحركات القومية (الانفصالية). تتحرك جيوش السلطنة لحصارها وضبطها. تتدخل الدول الأوروبية داعمة تلك الحركات. تبدأ المفاوضات. تتنازل السلطنة عن بعض الأراضي لضمان وحدتها ووقف الضغط العسكري عليها.
املت الحاجة العسكرية على السلطنة (السلاطين) تعزيز دور الجيش وتقديمه على مختلف الهيئات الاهلية والمدنية، وبدأ قادة الجيش يمارسون نفوذهم في الداخل استنادا إلى سمعتهم وتضحياتهم في خوض المعارك دفاعا عن السلطنة في مختلف الجبهات وخطوط التماس.
وهكذا بدأ توازن السلطنة الداخلي يختل لمصلحة الجنرالات بالقدر الذي كانت فيه موازين القوى العسكرية تختل لمصلحة أوروبا وروسيا في الجبهات الحدودية. فانتقل الجنرالات من خوض المعارك العسكرية إلى التدخل في الشئون السياسية الخارجية ثم الداخلية. فأصبحت للجنرالات كلمتهم المسموعة في مختلف القطاعات الشعبية وتحديدا تلك التيارات القومية المتطرفة التي تكره كل ما يحيط بها في اوروبا والمنطقة العربية.
وتوجت هذه النزعة بالانقلاب على السلطان وعزله عن السياسة وسيطرة الجنرالات على مقاليد الحكم والاتجاه نحو «تتريك» كل الولايات والقوى العربية والاوروبية الواقعة ضمن دائرة السلطنة.
إلى ذلك اتجهت تلك الحفنة من الجنرالات إلى كسر كل التقاليد والموروثات فأخذت تخالف كل ما فعلته السلطنة حتى عناصر القوة فيها التي كانت من اسباب صمودها في مواجهة كل تلك الحملات والهجمات.
وهكذا تأسس الخلاف العربي - التركي على قواعد قومية علمانية حديثة وبدأ الانشقاق يسير إلى ان انفجر في الحرب العالمية الاولى. فانهارت قوات السلطنة في بلاد الشام وانسحبت في وقت واحد عن الكثير من مناطق نفوذها في اوروبا الشرقية.
وحين انهارت السلطنة كان لابد من انهيار السلطان في الداخل. فأحكم الجنرالات قبضتهم الحديد على البلاد بقيادة كمال اتاتورك الذي بالغ في نزعته العلمانية - القومية فاتجه نحو الاستبداد وقمع كل ما هو مخالف. فألغى الأذان بالعربية، وبدّل الحروف العربية إلى اللاتينية (فانقطع التواصل مع الماضي وتحولت أمة إلى جماهير أميَّة) ومنع النساء من ارتداء الحجاب والرجال من لبس الطربوش واستبدل العمامة بالبرنيطة (رمز الحداثة آنذاك) وأخيرا ألغى الخلافة الاسلامية وأطاح بتاريخ طويل من التطور.
إعلان الجمهورية في 1926، لم يأتِ خارج الفضاء الزمني بل إنه أنهى حقبة من التاريخ الإسلامي ودشن حقبة الجنرالات والانقلابات، إذ كان للأتاتوركية الكثير من المريدين فقلدوها واستنسخوها فانقلبوا على دولهم وأوطانهم كما فعل المجلس العسكري (الغطاء الحقيقي لحزب جمعية الاتحاد والترقي السياسي).
اعلان الجمهورية لم يكن في الحقيقة سوى اعلان تأسيس الاستبداد السياسي الذي طغى على تركيا (ولايزال المجلس العسكري يواصل مهمته حتى الآن) ودفعها إلى الوراء زمنيا ونقلها من الدولة الأولى في آسيا إلى الأخيرة في أوروبا.
وأخطر ما فعلته جمهورية أتاتورك أنها لم تكتفِ بفصل الدين عن الدولة بل لاحقت الدين وطاردته وأسرته وهو حتى الآن لايزال سجين «زنزانة العلمانية». فالدولة الانقلابية أسرت الاسلام وسيطرت على المجتمع وأعادت تشكيله وفق صورة الجنرالات وتصورهم.
وحتى اللحظة لاتزال المشكلة قائمة ليس بين الدولة والدين بل بين تركيا وهويتها الضائعة بين آسيا وأوروبا والإسلام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 28 - الخميس 03 أكتوبر 2002م الموافق 26 رجب 1423هـ