كوبا دولة شيوعية، لكنها الوحيدة التي زارها بابوات الفاتيكان 4 مرات. بل إن هذا الأرخبيل الشيوعي كان الجسر الوحيد الذي جَمَعَ البابا فرنسيس ورئيس الكنيسة الروسية الأرثوذكسية البطريرك كيريل، حيث تعانقا في هافانا في مشهد لم يحصل منذ 1000 عام، حين انفصل الأرثوذكس الشرقيون عن كنيسة روما الكاثوليكية. وهو دور لم يفعله أي بلد مسيحي في العالم.
الحقيقة أن الحديث عن علاقة كوبا «الشيوعية» وكاسترو «الماركسي» بالدِّين أمر حُجِبَ عنا عمداً؛ لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقاً. لكن هذه الصورة بدت في التهشّم إلى حدّ كبير بعد أن نشر الراهب البرازيلي فري بيتو كتابه «فيدل والدِّين»، الذي هو خلاصة 23 ساعة من النقاشات مع كاسترو. لقد أخذ العالم ينتبه لهذا الرجل الكهل أنه ليس بديني لكنه ليس عدواً للأديان.
كان الليدر ماسيمو فيدل كاسترو قد تعلَّم في مدارس اليسوعيين الكاثوليك عندما كان صغيراً. وحين سُجِنَ في البرازيل مدّة 4 سنوات قبل انتصار الثورة الكوبية دَرَسَ الكتاب المقدس بعناية. وعندما شبَّ في السلطة سجَّل له الأرشيف نقاشات معمّقة مع رهبان تشيلي بشأن قضايا الإيمان والمعتقد، إلى أن تكلَّلت كل تلك الأشياء والحوارات في كتاب «فيدل والدِّين» لـ فري بيتو.
لقد كان أحد الأسباب التي جعلت صورة كاسترو كـ مشهد مُدْلَهِم ليس به سوى العِداء للمسيحية؛ هو الدعاية التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية ضده خلال نصف قرن، والعلّة أنه كان يقول بأن العوامل المعنوية هي من ركائز الثورة، وأن التحرر من الظلم والقيود يخص المسيحيين والشيوعيين معاً. وكان يصف الكرادلة بأنهم أذكياء وذو عزيمة وأصحاب جِدّ.
لقد أغاض كاسترو واشنطن عندما كان يقول: بـ «أن المسيحية تدعو إلى التواضع والإيثار والزهد ومحبة الجار، وهي فحوى النشاط الثوري»، بل إن «المسيح وقف إلى جانب الفقراء، لذلك فإن التوافق بين المسيحية والشيوعية أكثر من 10 آلاف ضعفٍ مما هو بين المسيحية والرأسمالية». كان ذلك الخطاب خطيراً على الرأسمالية الأميركية التي استخدمت الدِّين لرعاية مصالحها وشيطنة كوبا وكاسترو نفسه الذي كان شيوعياً مؤمناً (ليس في المسيحية) ولكن بمبادئه الإنسانية.
للأسف فإن «أغلب» ما كُتِبَ عن فيدل كان بشأن «ثوريته» ونشاطه السياسي وعن محاولات الاغتيال التي تعرَّض لها. لكن هناك جوانب أخرى أهم لم يُسلَّط عليه الضوء كما يجب، وهو فكر كاسترو ونظرته الفلسفية للدِّين والاقتصاد وغيره والذي كان يتحدث بشأنها بدرجة عالية من الوعي والفهم.
قبل 13 عاماً و5 أشهر من وفاة كاسترو، التقت أشهر صحيفة أرجنتينية وهي صحيفة «Clarín» بـ الرجل، تحدث فيها بطريقة لافتة عن الكثير من الأمور. وبالمناسبة، هي لم تكن مقابلة «علاقات عامة» أو مُعَدَّة إجاباتها من إدارة العلاقات العامة بمكتبه، بل هي مقابلة مباشرة ودون «مقص».
ما لفتني هو أن كاسترو الذي عُرِفَ بخطاباته الثورية والحماسية كان واقعياً جداً ولم يكن ديماغوجياً. ولأنه زعيم دولة؛ فقد كان يجمع بين حِسِّه كـ حاكم يمتلك المعلومة الاستخباراتية والتحليل السياسي والرؤية الاقتصادية وبين أفكاره بطريقة تجعلك ترى في كاسترو مفكراً من الطراز الأول.
كان كاسترو الذي بلغ من العمر حينها 77 عاماً متابعاً لأحداث الساعة وليس للتاريخ فقط. كان يعرف الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لـ 20 بلداً لاتينياً تتوزع على الشمال وأميركا الوسطى ومنطقة الكاريبي والمناطق الأميركية الجنوبية. كان يعرف أن ذلك البلد بدأ يعتمد على النحاس وطوَّر المنتجات الحرجية والبحرية، وذاك البلد معتمد على النفط وآخر غارق في الدّيون.
كان يتحدث في الاقتصاد بـ «ذاكرة شابة» في جسد كهل. يشرح كيف كانت ديون أميركا اللاتينية 300 مليار دولار وكيف آلت إلى ما آلت إليه. ثم يعرِّج على مرحلة العولمة النيوليبرالية والخصخصة الإلزامية، وكيف أنها ضغطت على عملات أميركا اللاتينية فلم يعد بالإمكان ضمان استقرار قيمتها بما فيه العملات التي عادلت قيمتها بالدولار، ويضرب مثالاً بالعملة البرازيلية.
كان يتحدث عن التضخم وطبيعة المؤثرات النفسية في تمرير السلع وخداع الأبصار في الأسواق كي تُرَى السلعة أرخص من غيرها، فيقول: «من قبل كان يمكن اقتناء أشياء بسنتين اثنين، بل وبسنت واحد من الدولار، أما اليوم فلا ينفع هذا السنت إلاّ للدعاية: 10.99 دولارات بدلاً من 11 دولاراً، أو 99.99 دولاراً بدلاً من 100 دولار.
يفسر كاسترو طبيعة قِيَم التبادل الحالية فيشير إلى أن «الذهب كان عملة، كما كان الكاكاو عملة بالنسبة لهنود الأزتيك؛ ولكن كان لهما قِيَم بحد ذاتهما». ثم يقول: «فكرة وجود وسائل تبادل أخرى، ووجود رمز للمال، هي فكرة جيدة؛ ولكن ما يحصل هو أن هذا الرمز هو شيء تتم طباعته سراً، وهو رمز تم التمادي في استغلاله على نحو ما فوق العادي، بمن فيهم الأميركيين، لأنهم من بين أكثر مَنْ طبعوا عملات ورقية، مع إلغاء إمكانية تحويله إلى ذهب».
تحدث عن فلسفة القروض والفوائد ورؤوس الأموال والصرف الحر والإنتاج وبريتون وودز وعن الصفة التحويلية للدولار بطريقة عجيبة وكأنه أستاذ جامعي بارز. تحدث عن صندوق النقد الدولي وكيف باتت بعض الدول تدفع نصف ناتجها لذلك البنك. تحدث عن أمور كثيرة في السياسة والفكر. وهي أشياء (بالإضافة إلى بقية نتاجه الفكري) جديرة بأن يُسلَّط عليها الضوء في شخصية هذا الرجل الذي وقف العالم احتراماً له في حياته ويوم ترجَّل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5199 - الأربعاء 30 نوفمبر 2016م الموافق 29 صفر 1438هـ
مقال ثري كعادة مقالاتك أخ محمد وغطى جانب لم يكن مطروح وهو علاقة الشيوعي والعلماني بالدين التي يشوها رجال السلطة والدين ويصورون الشيوعي والإشتراكي والعلماني إنسان ملحد وضد الدين وفاسق واحيانا منحرف اخلاقياً وهوكس هذا تماماً . اتطلع للمزيد
مقال ثري شكرا أستاذي
مقال ثري بالمعلومات .. العجيب ان الاساليب الاكريكية مازالت كما هي لم تتغير في شيطنة الانظمة التي ترفض الخضوع لسيطرتها
Thanks Mohammad