في الوقت الذي أفرزت فيه نتائج انتخابات البلدية ـ التي حسمت في 16 مايو/أيار الماضي ـ تحولات فعلية على الصعيد الداخلي، دشنت أولى الخطوات نحو إعادة مأسسة المملكة، صار من الصعب ـ ونحن نقترب من الانتخابات النيابية ـ أن نغض الطرف عنها، بحكم أن غالبية المترقبين للانتخابات النيابية المقبلة يعتبرونها تجربة ستتكرر بالحذافير ذاتها التي جرت في انتخابات المجالس البلدية. وتأسيسا على ما يجري حاليا من مراوحة في الدخول وعدم الدخول... القبول وعدم القبول بالانتخابات البرلمانية، فإن ما سيجري مرشح - ليس ببعيد - أن يتكرر أيضا في الانتخابات المقبلة.
ففي الفترة ما بين حل المجلس الوطني بعد انتخابات 1973 بعامين، بسبب خلاف نشب بين رموز المجلس وبين السلطة آنذاك، إلى الانتخابات البلدية الأخيرة في مايو الماضي، عاش الشارع البحريني فجوة في ممارسة حق الانتخاب المباشر لاختيار ممثليه عندما جُمدت السلطة التشريعية، ترتب عليها ردة فعل عنيفة كشفت جليا عن الاحتقان الطائفي الذي تؤدي فيه التيارات الدينية المسيّسة دور البطولة.
والسؤال: هل ستنسحب إفرازات انتخابات البلدية ـ التي حسبت فيها الكراسي على اعتبارات مذهبية لا وطنية ـ على الانتخابات النيابية المقبلة في أكتوبر/تشرين الأول؟ هل ستظل الممارسات الخارجة عن حدود اللعبة الديمقراطية واقعا لا يتسنى طيه؟ هل سيظل التيار الديني صاحب القرار في تحريك خيوط المشاركة السياسية؟ هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى تظل تبحث عن أجابتها الضالة مع اقتراب العد التنازلي للتجربة الأهم بعد المجلس الوطني المنحل منذ العام 1975.
الانتخابات في قالب تنظيري
التنظير في موضوع الانتخابات يتخذ في كل يوم قالبا مختلفا يخضع لطبيعة النظام الانتخابي الذي تعتمده الدولة، ففي الأنظمة الديكتاتورية التي يحكمها نظام الحزب الواحد ـ حسب الكاتب كيْس لوسون صاحب كتاب «المجتمع السياسي: دراسة مقارنة» ـ فإن الانتخابات «تجرى لأغراض شكلية تتخذ شكل المراسيم من دون أن يكون هناك وجود للمنافسة الحقيقية إلا ضمن إطار الحزب الواحد».
ويقول: «وجود نظامين انتخابيين في قطر واحد أمر غير مستغرب، الأول يفرضه القانون ويدعو إلى انتخابات نزيهة تستخدم المنافسة والجدارة كأدوات، فيما يحدد التوزيع الفعلي للسلطة السياسية النظام الثاني».
وبعيدا عن تحديد موقع انتخابات البلدية من تلك التنظيرات، فإن التصويت في الانتخابات يظل من أكثر الحقائق المحيرة للبعض، على رغم أن ممارسة المشاركة حق تنص عليه المواثيق والدساتير الديمقراطية، ويعد من أسهل التصرفات السياسية وأكثرها شيوعا.
يقول السياسي الناشط في مجال حقوق الإنسان سلمان كمال الدين: «إن نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة تمثل الواقع الحقيقي لما عاشه مجتمع البحرين من تحول غير محسوب في عقلية القوى المعارضة».
و يرى أن برنامج الدولة كان محسوبا في وقت كانت فيه برامج المعارضة متباينة ومتضاربة مع ذاتها قبل غيرها، ولم تحسن قراءة التجربة لذلك طغى جانب على آخر.
ويعتقد كمال الدين أن التغليب من هذا الجانب أو ذاك لم يكن مقصودا، بل كان عفويا، يشبه تماما «وضعية طيور من نوعيات وسلالات مختلفة في قفص واحد، فتح لها باب الحرية فانفلتت من دون ضابط، وأمسى القوي ضعيفا، والضعيف قويا».
وفي وقفة لتوصيف التجربة يقول:«إن محاولة إثبات الذات الفردية والجماعية سيطرت على السلوكيات التي أرادت إثبات ذاتها من دون النظر في المرحلة الابتدائية لأبجدية الديمقراطية، وفي من هو أحق بأن يمثل الوطن والمواطن».
اللعبة السياسية
والتيارات الدينية
المحامي عبدالله هاشم يرى أن الولاءات والقيم التي تكرست في المرحلة السابقة هي التي جعلت الشارع البحريني يثق بالتيار الديني من دون وعي منه للبحث عن الأقدر على تحقيق المصلحة العامة.
ويقول هاشم: «رجل الشارع العادي يعتقد أن الصالح العام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال ممثلين متدينين، وهو يتغافل عن الكفاءة في الأداء والبعد العلمي كقيم ومعايير محكمة في انتخاب المترشح».
في السياق ذاته يقول كمال الدين: «لقد كنا ـ لعقود طويلة ـ منغلقين على ذواتنا وعن الآخرين، ولا نريد إلا أن نسمع ما يرضينا كسلطة، ولا يعنينا ما تعمله السلطة من فعل لصالح الوطن، فكان الانغلاق يقابله الانغلاق، ويجابهه عقاب وإهمال، مما خلف نتائج مؤسفة لا نزال نحمل آثارها».
وعلى رغم ما يتمناه كمال الدين من أن يكون للقوى السياسية والوطنية موقع ومستقبل؛ فإنه يعود ليقول: «إن الأماني تختلف عن الوقائع، فالحقائق تشهد على انشغال القوى السياسية ـ بكل اتجاهاتها ـ عن أي حضور سياسي أو نضالي مجبول بالتضحيات»... «فالحاصل أن تلك القوى تلملم بقايا أشلائها وتتكئ على التنسيق والتعاون المشترك فيما بينها، فيبعث مندوب من هذا الطرف إلى ذاك بغرض التحالف غير المجدي».
ويضيف: «أقترح على من ليست لديه القدرة التنظيمية والجماهيرية بأن يقر ويعترف، لا أن يضيف نفسه صفرا على الشمال، ويتحول إلى رقم مجرد من المعنى».
وجاء في استبانة أعدتها «جمعية العمل الوطني الديمقراطي» أن النزاهة والكفاءة السياسية والسجل الوطني والقبول الجماهيري كلها شروط تأتي في أعلى هرم الصفات التي يتطلع إليها الناخبون في مترشح المجلس النيابي، والمفارقة أن عنصر التدين حصل على أقل الأصوات في الاستبانة، يليه الانضباط والمستوى العلمي والأخلاق. في الوقت ذاته، يشير المراقبون إلى أن الالتزام الديني والعقائدي هو الأساس الذي حكم اختيارات القواعد الشعبية لجمعية «الوفاق الوطني الإسلامية» في انتخابات البلدية الماضية وربما يحكمها في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول المقبلة.
يرى هاشم أن التدين أو التقوى قد يصلحان كمعيار لانتخاب المترشح، بيد أنه يؤكد ضرورة وجود قيم أخرى مساندة لا تقل أهمية، لابد من توافرها. ويقول: «الجماهير آثرت الجري وراء التيار الديني بفعل التجييش الذي أتقنه ذلك التيار، مما أبعد التيارات الأخرى المدنية أو «الوطنية» عن الساحة الانتخابية».
ويزيد: «إن القوى الوطنية غير الدينية غير قادرة على التواصل مع الشعب نتيجة الموروث التاريخي ونتيجة لضعفها أيضا»... «لقد ساهمت السلطة ومعها التيار الديني في تعزيز فكرة أن التيارات الوطنية غير الدينية هي تيارات ملحدة، وهذا ما قاد إلى تراجعها».
وفي المقابل يوضح هاشم أن القوى السياسية الوطنية تنتمي إليها النخبة المثقفة لتمارس السياسة كترف، ليس إلا، فهي تستعذب مناقشة الهم العام فيما بينها، في الوقت الذي تتكاسل فيه عن شرح وتحليل القضايا العامة لرجل الشارع في أماكن وجوده، سواء في دور العبادة أو المجالس أو المقاهي أو حتى الأندية الشبابية.
واعتبر هاشم التواصل ما بين تيارات القوى السياسية وبين الشارع البحريني هو حجر الزاوية لأي عمل سياسي ناجح.
ويؤكد الناشط في حقوق الإنسان عبدالهادي الخواجة أن نتائج انتخابات البلدية «تجعلنا ـ كناخبين ـ ننفتح على واقع جديد على اعتبار أن القوى السياسية جميعها قبلت الدخول في عملية الانتخابات، بغض النظر عن النتائج والممارسات الخارجة عن حدود اللعبة الديمقراطية».
ويقول: «التجربة كانت بمثابة «ترمومتر» لقياس مدى تأثير تيارات القوى السياسية على الجماهير، و على رغم قصر مدة التجربة والخبرة، فإن الانتخابات قد أعطتنا قراءة واضحة عن طبيعة القوى المهيمنة على الساحة».
في السياق ذاته يقر كمال الدين بأن الطائفية موجودة والمذهبية موجودة، واصفا العنصرية والتمييز بـ «ضيف قبيح ثقيل الظل»، لكنه موجود في العالم كله.
ويقول: «لنقر أن الدين لله، ونعترف بأن الوطن للجميع، ونؤمن بأن المذهب سلوك المجتهدين في تأسيس التقارب والتوحيد، فليس كل من وصل إلى كراسي البلدية كانت خطته تكريس «الطائفية» أو زيادة الاحتقان الطائفي أو السياسي».
يعود عبدالهادي الخواجة ليؤكد أن تجربة انتخابات البلدية أعادت فرز القوى السياسية على أساس موقفها الديني، لذلك فإن الإفرازات كانت متوقعة. ويقول: «تكرار التجربة يعتمد على الوعي السياسي، والخوف الآن يتركز على بقاء الوعي العام في أدنى حدوده، مما يترتب عليه استمرار عملية الشد والاستقطاب بين التيارات في الساحة».
يقول كمال الدين: «عندما نصنف التيار الديني على أنه وطني، يكون جزءا من المعادلة الوطنية، وعليه يكون له الحق ـ كما لغيره ـ أن يصبح أداة فعالة في عملية المشاركة والتغيير الديمقراطي». ولكنه يتوقع أن يتقلص دور هذا التيار مع تكرار التجربة في الانتخابات المقبلة.
موقع المرأة
في الانتخابات المقبلة
كمال الدين لا يرى في الأفق مستقبلا للمرأة البحرينية في الانتخابات المقبلة، فالتجربة الماضية كانت فيها المرأة مجرد صوت في عملية الاقتراع، وستبقى مهمشة، لا دور لها، لا تشريعا ولا ديمقراطيا، مادامت ترفض أن تكون نصيرة نفسها، وهذا ما لمسه في التجربة البلدية الماضية.
وهذا ما يشاطره فيه هاشم الذي يبدو أنه على يقين بأن موقع المرأة سيظل في المؤخرة، ولن يتسنى لها دخول المنافسة في السنوات الأربع المقبلة كأدنى تقدير «إذ ستبعد التيارات الدينية المرأة عن الساحة، وهي «التيارات الدينية» الأقدر على إيصالها إن أرادت» على حد تعبيره.
ويقول: «يوجد في مؤسسات المجتمع المدني كادر نسائي متقدم يستطيع تجاوز قطاع كبير من الرجال، لكن القناعات الراسخة تجعل المرأة في الموقع التابع، وتمنعها من الصعود إلى موقع القيادة، على رغم أنها تمثل الشريحة الأكبر في الهيئة الناخبة».
كما يستبعد الخواجة أي حضور لافت للمرأة في مقاعد المجلس النيابي مستندا إلى الخبرة في هذا المجال. ويعزو السبب في هذا الغياب إلى تقصير التيارات السياسية ـ بما فيها الدينية ـ في نصرة المرأة والتجييش لصالحها، وعلى البعد الآخر يقول: «لم تكن من المترشحات أسماء لافتة أو صاحبة حضور اجتماعي، لذلك لم تقدر المرأة على كسب الجماهيرية والتأييد المطلوبين».
ويجزم الخواجة بصعوبة وصول المرأة إلى المقاعد النيابية، لذلك فهو يطرح فكرة تخصيص مقاعد ـ ولو بالحد الأدنى للمرأة وبشكل استثنائي خلال المرحلة المقبلة ـ لتكون مرحلة تجريبية تستطيع المرأة خلالها أن تثبت نفسها وتقنع الآخرين بقدرتها.
إثارة الحركة البحثية
في غضون الأيام التي سبقت التاسع من مايو 2002 ـ موعد انتخابات البلدية وما أعقبها من أيام ـ نشطت الحركة البحثية في الأوساط الأكاديمية في محاولة لدراسة الحدث الذي اعتبره الباحثون باكورة المسيرة الديمقراطية محليا.
جامعة البحرين كانت نقطة انطلاق عدد من الدراسات والأبحاث، منها ما خرج به الباحثان محمد الموسوي وبتول أسيري اللذان وقفا على زاوية إخفاق المرأة في الانتخابات والنتائج المترتبة عليها، عُرضت في الصحافة المحلية.
وفي نتائج دراسة طبقتها خمس طالبات يدرسن في قسم الإعلام والعلاقات العامة بجامعة البحرين على عينة بلغت 605 أشخاص يمثلون المحافظات الخمس، بهدف الوقوف على اتجاهات الشارع البحريني نحو ترشيح المرأة في انتخابات المجلس البلدي.
في هذه الدراسة التي لم تعرض سابقا، نرى أن عينة النساء وافقت بشدة على ترشيح الجدير بعضوية المجلس البلدي بصرف النظر عن جنسه بواقع 67 مقابل 33 من عينة الرجال، فيما توزعت باقي النسب على صيغة (أوافق، لا أدري، لا أوافق ولا أوافق بشدة) .
وفي مفارقة غريبة توقعت ما نسبته 52,5 من النساء و47,5 من الرجال أن تنجح المرأة في مهمات المجلس البلدي، في مقابل 73 من النساء و26,9 من الرجال توقعوا العكس تماما، وتوزعت باقي النسب على التقديرات الأخرى.
وفضل ما نسبته 34,3 من النساء و65,7 من الرجال (ترشيح الرجل لعضوية المجلس البلدي)، في مقابل 48 من النساء و52 من الرجال اعترضوا بشدة على ترشيح الرجل لمجرد أنه رجل.
وقالت نسبة 60,3 من النساء و39,7 من الرجال إن عضوية المجلس تتنافى مع طبيعة تكوين المرأة، مقابل 34,5 من النساء و65,5 من الرجال يرون العكس تماما. وتشير النتائج إلى أن غالبية النساء يؤيدن فكرة أن عضوية المجلس تتنافى وطبيعة المرأة وتكوينها.
وتوافق بشدة نسبة 27,5 من النساء و72,5 من الرجال على عبارة إن اشتراك المرأة في عضوية المجلس يعكس وعي المجتمع البحريني. فيما يرى 52 من النساء و48 من الرجال أن المرأة لا تميل إلى تبعية الرجل في مواقف اتخاذ القرار.
وفي السياق ذاته أعدت الجمعية البحرينية للشفافية تقريرا خرج بتوصيات كانت أهمها: إبعاد اللجان الانتخابية عن المراكز الدينية ودور العبادة، وإصدار قانون يحدد سقف أعلى لتكاليف الحملات الانتخابية.
كثيرة كانت المحطات التي توقفت عندها نتائج انتخابات البلدية في محاولة للتحليل والتباحث من جهة، ولتجميع القوى والانطلاق لانتخابات أشد ضراوة من جهة أخرى، وتبقى المحطة المقبلة هي الأكثر أهمية في تحديد مستقبل مسيرة الديمقراطية
العدد 28 - الخميس 03 أكتوبر 2002م الموافق 26 رجب 1423هـ