منذ بدء المشروع الإصلاحي في البحرين كنا نشهد مناخا في طبيعة صعبة وغالبا غير مؤاتية على رغم عناصر الواقع المتعددة التي ترسل إشارتها الخافتة وترشحنا لما لا يُقاس من الإحباط واليأس، وان ثمة أملا لم نتنازل عنه ولم ننسَ مُداراته والرأفة به، هو أمل يكمن في بساطة الإنسان البحريني وقدراته على تجاوز ما يعجز عنه الآخرون، وعلى رغم التشاؤم الذي تطلقه بعض الاجتهادات وتتورط فيه فإننا لن نستسلم لذلك الوهم، ففي الطاقة البحرينية سرّ لا ينبغي الاستهانة به وهو سر الإعانة والولاء والتضحية التي لا تخذل المستقبل أبدا. لذا فقد كنا نرقب المشهد من زاوية مختلفة حيث نذهب إلى جوهر الروح البحرينية، نذهب إليها ونرى من خلالها تلك الإشارات الصغيرة المتفرقة باعتبارها دلالات تكتسب أهميتها مما تشير إليه وليس مما تحققه الآن في لحظتها على عكس الذين يقفون في الماضي أو يقصدون في الحاضر.
شخصيا، كنت أعتقد أن إلغاء الآخر وإسقاط الحوار واعتماد سلوكيات جوفاء لغرض الرأي الأوحد والرغبات والمطامع والتباين الزاعق في أنماط الشعارات واللافتات والايديولوجيات والمزايدات والتشكيك في نوايا الآخرين قد ولّت إلى غير رجعة، فقد سئمنا منها طوال فترة التأزم والاحتقان، ولكن يأبى البعض إلا أن يطل علينا من نافذة ضيقة ليعيد إلينا ذلك السيناريو ولكن بصورة عصرية وانفتاحية تتلاءم مع طبيعة التحولات السياسية والاقتصادية التي تعيشها وتنعم بها البلاد. لسنا من أصحاب خلق الأزمات لكن الأمر أصبح يستحق المتابعة والمناقشة، هناك آلة مهمتها إثارة الصراعات والخلافات من أجل تحقيق مصالح ذاتية يدفع الوطن والمواطن ثمنها، فلم يعد يكفي معيارا للصدق والمصداقية أن يعلن أي طرف كان عالما أو تيارا أنه مع الحرية والديمقراطية، فالأولى به أن يعيد النظر في علاقته بمفاهيم الحرية بدلا من الاستبداد برأيه، فالنقد مهما قسا يجب ألا يكون هدفه الطعن والتجريح وخصوصا عندما يتركز النقد على قضايانا المصيرية المتعلقة بوحدتنا الوطنية. إننا نعيش في بلد مفتوح يحتوي على كل محاور التشكل والائتلاف ويحمل في طياته طاقات تنتظر من يستغلها للخير.
لم يكن قرار مقاطعة الانتخابات كفرا ولا إلحادا كي يواجه سيلا من الانتقادات والاتهامات وتجييش كل وسائل الإعلام المحلية ضده، بقدر ما كان موقفا تاريخيا شجاعا اتسم بقوة الموقف، ووضوح الرؤية. هكذا نحن دائما نقلب الصفحات لنقرأ ما يليق بمزاجنا، ولأننا نعادي الديمقراطية نحجب آراء من حددنا منهم موقفا أو أصدرنا ضدهم حكما بالمقاطعة والقطيعة، فلا صوت لهم في صحيفة أو تلفزيون أو إذاعة أو حتى النوادي الرياضية. نعم، هكذا نحن لا نعرف معنى الديمقراطية والحرية والمواطنة، فيحرجنا صبي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره حين يقول رأيه بكل صدق وعفوية: «إن هذا المجلس لن يحقق آماله وطموحاته»، بينما يجمد دكتور من وراء طاولته خوفا من أن يطير منصبه الوظيفي مفضلا أن يبقى دائما صورة بلا صوت. بيد أن هذه الفئة على رغم تراكمات وترسبات الماضي، لاتزال تعتقد أن مغازلة الحكومة هي أقصر الطرق للوصول إلى مآربها، وإن كان ذلك على حساب الوطن والمواطنين. لسنا بحاجة إلى مغازلة الحكومة، ولا الحكومة بحاجة إلى مغازلتنا بقدر ما نحتاج جميعا إلى أن نفتح آفاقا جديدة أمام قضايانا وابتكار أساليب جديدة نجتاز من خلالها الحواجز، وتسهم في فهم الواقع وتشخيصه وصناعته وتغييره، فالواقع الذي لا يتغير يصبح قاتلا للتغيير. بهذا المعنى لا يثمر النقد ما لم يتزحزح أحدنا عن موقعه أو يغيّر أفكاره وأساليبه بتغيير علاقته بذاته ومجتمعه، فلم تعُد عقلية الشعارات الزاعقة ومنطق الخطابة الواهي سوى سلاح مغلول يزيدنا عجزا على عجز واستغراقا في متاهات الانزلاق، من أراد أن يعثر على خيط الحقيقة فلابد أن يفكّ خيوط الغزل المتشابكة التي كانت تدفع بالأمور نحو استقطاب ما فيه من الحدة واللجاجة والتعصب أكثر مما فيه من المنطق والعقل والمسعى من أجل مصلحة البلاد والعباد، فهكذا كلما ازدادت خيوط الغزل ارتباكا لم يعد العثور على خيط الحقيقة صعبا فحسب بل مستحيلا، لا يصمد عندها إلا من يتمكن من أن يعزف أناشيده كما أرادها ويضيء شموعه بالقدر الذي يستطيع وبالدرجة التي لا تستفز الظلام.
العالم من حولنا يتغير بتسارع وما لم نتحلَّ برغبة وإرادة صادقتين في التطلع نحو الأفق فإن هذا يعني أنْ نبقى متعثرين في حِفر وطننا العزيز، وهي حفر مظلمة لابد أن نحيل تجاهها كل طاقة للفرح إلى قبس مضيء تسعى في إشعاعه أقدامنا لنقطع الطريق على أولئك الذين اعتادوا على ألا يروا سوى الباهر من الضوء
العدد 27 - الأربعاء 02 أكتوبر 2002م الموافق 25 رجب 1423هـ