ليس على المرء الا أن يقرأ وثيقة «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية» التي نشرتها الإدارة الأميركية أخيرا (المتوافرة على موقع الانترنت الخاص بالبيت الأبيض) ليدرك أبعاد السياسة الأميركية تجاه العراق. أن طرحنا الأجزاء التي يبدو أنها صيغت لإرضاء الحلفاء الأوروبيين ومجموعة كولن باول في الإدارة جانبا، فإن ما يتبقى لابد أن يكون كافيا لإثارة الرعب والغضب في أنحاء العالم، وفي المنطقة العربية والإسلامية على وجه الخصوص. تعتبر وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي، في تبنٍ واضح لأيديولوجية الهيمنة والعدوان التي يروّج لها تيار المحافظين الجدد في إدارة بوش، عن تحول سياسي جوهري في توجهات جورج بوش الابن. لقد وصل بوش إلى السلطة بوعود لسحب الجزء الأكبر من القوات الأميركية المتمركزة في مواقع مختلفة في العالم، التوقف عن لعب دور البوليس الدولي، حتى في مواقع حفظ السلام، والانصباب على تعزيز المصالح الأميركية بدون إلقاء اعتبار لتوجهات ايديولوجية معينة (قبل نشر الديمقراطية) أو الاتفاقات الدولية (قبل الاتفاقات حول البيئة أو الحد من التسلح). تؤكد الوثيقة الجديدة، التي ترسم معالم الاستراتيجية الحاكمة لسياسات إدارة بوش خلال العامين المقبلين، سقوط تلك الوعود وتؤسس لنهج إمبريالي، تدخلي، نشط عبر العالم كله.
تبدأ الوثيقة بالإشارة إلى الموقع الفريد الذي تحتله الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، الموقع الذي تعززه القوة العسكرية الأميركية الهائلة والوزن الاقتصادي الذي لا ينافس. وتؤكد على أن الولايات المتحدة ستعمل على مواجهة كل طامح للمنافسة أو المشاركة في قيادة الشأن العالمي. وهذا بلا شك تهديد موجه ليس للعراق أو سورية أو إيران بل للصين وروسيا وأوروبا. ولا وثيقة إدارة بوش عزم واشنطن على التصدي للتهديد، أو احتمالات التهديد، الذي قد يبرز من تيارات ارهابية أو الدول الساعية لامتلاك اسلحة الدمار الشامل (جميعها وليس العراق فقط)، كما للتهديد المحتمل من الدول الفاشلة (Failing States)، وهو الاصطلاح المفضل للمحافظين الجدد في وصف كل الدول العربية تقريبا باعتبارها دولا غير قادرة على توفير الرفاه لشعوبها وتحولها بالتالي إلى مفرخات للعناصر الإسلامية والإرهابية. وتحذر الوثيقة الصين بشكل خاص من السعي للحصول علي تقنية عسكرية متقدمة. طبقا للتوجه الأميركي الجديد، فإن للعالم صورة واحدة ممكنة، تبنى على أساس من الديمقراطية والحريات واقتصاد السوق، وستستخدم الولايات المتحدة وسائل القوة والنفوذ لفرض هذه الصورة على دول العالم المختلفة. (ولنا أن نتصوّر كيف يمكن أن تفتقد الدعوة إلى الديمقراطية أدنى درجات الحرية والخيار الديمقراطي). وتعيد الوثيقة التوكيد على ما أشار إليه بوش وأركان إدارته مرارا خلال الشهور القليلة الماضية من أن مبدأ الهجوم الاستباقي، الذي كان دائما جزءا لا يتجزأ من السياسة الخارجية الأميركية، قد أصبح الخيار المؤسس لهذه السياسة.
أسس مجلس الأمن القومي الأميركي مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما حسمت الولايات المتحدة أمرها ودخلت بشكل فعّال ودائم إلى الساحة الدولية باعتبارها القوة القائدة للمعسكر الغربي. وبدخول مصطلح «الأمن القومي» إلى اللغة الأميركية أصبح يدلل بشكل محدد لا على الأمن الفعلي للولايات المتحدة داخل حدودها الجغرافية، بل على سياستها الخارجية. بتبني هذه الاستراتيجية للأمن القومي، يكون الصراع داخل إدارة بوش قد حسم لصالح معسكر المحافظين الجدد الذي يعبّر عنه ثلاثي نائب الرئيس، وزير الدفاع، ونائب وزير الدفاع لم يأت هذا التحول من فراغ، ولا من تدافع وجهات النظر وانتصار الأكثرية على الأقلية داخل إدارة بوش، بل جاء أصلا من خلال التوظيف الانتهازي للأبعاد الهائلة لأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. سلح الهجوم المدوي على الولايات المتحدة من قبل القاعدة المحافظين الجدد بأدلة واقعية، دموية، لدعم وجهة النظر القائلة إن على أميركا أن تلتزم سياسة هيمنة نشطة في العالم، أن تداهم خصومها في عقر دارهم، أن تعيد رسم العالم على صورتها، وإلا كان مصيرها الانحدار التدريجي. في عرض هذه المجموعة الإيديولوجية، ليس ثمة من موقع ثابت للقوى الكبرى، فهي أما أن تتحرك باستمرار لتعزيز سيطرتها وأما أن يدفعها خصومها إلى الانحدار. بالنسبة إلى هؤلاء، ستؤمن الولايات المتحدة قيادتها للعالم ليس بتبني وتعزيز دور القيم الانسانية والدفاع عن المشترك الإنساني، ليس بتنافس حر في مجالات الانتاج والابداع، بل بالقوة المجردة.
هذه السياسة هي التي تحكم المخططات الأميركية تجاه العراق. فالولايات المتحدة لا تريد حلا دبلوماسيا، دوليا للأزمة (الأزمة التي أثارتها واشنطن أصلا) بل تريد الحرب. ليست المشكلة هنا هي أسلحة الدمار الشامل، أو النفط، أو حتى إسقاط النظام العراقي، بل شن الحرب. ويكفي العودة إلى النص الأصلي لمشروع القرار الذي تقدمت به الإدارة الأميركية للكونغرس من أجل الحصول على تفويض للرئيس بالحرب، والذي تم إجراء تعديلات طفيفة عليه بطلب من كتلة نواب الحزب الديمقراطي في الكونغرس. فالمشروع الأصلي للقرار لا يطلب الموافقة على استخدام القوة في العراق فحسب بل في الشرق الأوسط، هكذا وبشكل عام. فالأمن الذي ترسمه إدارة بوش هو لتدخل في العراق أولا، ثم لسلسة من التدخلات التالية، طبقا لتطور الأمور واتضاح تداعياتها، في سورية، إيران، لبنان، ولا يجب على الإطلاق استبعاد حتى الدول المعروفة بتحالفها مع واشنطن. هذا مشروع واسع النطاق، يبدأ باسقاط النظام العراقي واقامة نظام صديق للولايات المتحدة في بغداد، تجريد العراق من السلاح، وتأسيس الوجود الأميركي في بلد يمتلك من الثروات ما قد يساعد على بناء قاعدة سياسية وثقافية للمشروع الأميركي في المنطقة. وأحدا ينبغي ألا يشك لحظة في أن الهدف الثاني سيكون زعزعة النظامين الإيراني والسوري، بشكل مباشر أو غير مباشر، وربما توجيه ضربة عسكرية هائلة عن طريق الجو لحزب الله وقواعده في لبنان. ثم يأتي دور مصر والسعودية التي ستفقدان قدرا واسعا من هامش المناورة والاستقلال في علاقتيهما مع واشنطن. أما الكيانات الأصغر في المنطقة، فتأمل واشنطن تداعيها كأحجار الشطرنج. النتيجة النهائية، على المستويين العربي والإسلامي، ستكون بلا شك فرص تسوية للقضية الفلسطينية، تلبي المطالب الإسرائيلية أكثر مما تلبي المطالب الفلسطينية والعربية.
قد لا تنجح الولايات المتحدة في فرض تصورها على المنطقة، والأرجح أنه حتى وان حققت واشنطن بعضا من أهدافها أو حتى كلها في العراق فإن مقاومة القوى الإقليمية المختلفة ستترك أثرها على السيناريو الأميركي، ناهيك عن مقاومة القوى الدولية، من فرنسا وروسيا إلى الصين، التي ترى مخاطر حالة الهجوم ومخططات الهيمنة الأميركية الانفرادية. ولكن ذلك يجب أن لا يغيب احتمالات الكارثة التي ستؤدي إليها الحرب، انسانيا وسياسيا واقتصاديا، ليس فقط في العراق بل في المنطقة ككل، وليس فقط على مستوى القضايا العربية والإسلامية الواضحة بل أيضا على مستقبل العلاقة بين العرب والمسلمين من جهة والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى. بهذه الحرب ستدخل العلاقة بين العرب كأمة والإسلام كدين حقبة من الصراع والتدافع مع المعسكر الغربي لم تعرف من قبل، حقبة ذات طابع كوني تختلط فيها إشكاليات قرنين من العلاقة بين الطرفين بحالة من انفجار الغضب العربي - الإسلامي العارم. لكل هذا يجب أن تعمل كل الأطراف ذات العلاقة على منع وقوع هذه الحرب، منع وقوعها أصلا وأولا، وقبل أن يبدأ النظر في حصار تداعياتها.
قبول العراق بعودة المفتشين وان بدا وكأنه سياسة ذكية فقد جاء متأخرا. لو أن العراق قبل بعودة المفتشين في أيار/مايو الماضي لكان ربما قد تفادى صدور قرار جديد لمجلس الأمن، تقصد به الإدارة الأميركية استفزاز بغداد وافشال مهمة المفتشين والتمهيد بذلك للحصول على تأييد دولي للحرب. لقد أصبح صدور قرار جديد لمجلس الأمن أمرا محسوما تقريبا، ومن الضروري عدم التمويل على استخدام روسيا للفيتو. ليس فقط لأن احتمالات استخدام روسيا حق الفيتو أصلا بل أساسا لأن مثل هذا الأمر سيجعل المهمة الأميركية أسهل. إن عجزت واشنطن عن استحصال قرار جديد من مجلس الأمن ستعود إلى مواقعها الأولى مدعية بأنها حاولت ما تستطيع سلوك طريق الأمم المتحدة وأنها أصبحت الآن في حلٍ من التزاماتها الدولية لتجنب مثل هذا السيناريو لابد أن يقبل العراق بالقرار الجديد لمجلس الأمن مهما تكن بشاعته وأن يتعاون بلا تحفظ مع فرق التفتيش الدولية حتى تنقشع عاصفة الحرب ويصبح بإمكان القوى المختلفة، القلقة من نزعات اليهمنة الأميركية، التكتل من جديد لوضع نهاية للمسألة العراقية. ولكن ذلك ليس كل شيء، فإن كان لهذا الكابوس من نهاية فعلية فينبغي أن يقع انقلاب جوهري في علاقة النظام العراقي بشعبه وبقواه السياسية، مهما تكن أطياف ومطامح هذه القوى. حتى وان قورنت بأكثر الأوضاع السياسية العربية تدهورا، فإن حالة العراق هي الأسوأ بلا شك، وقد آن الأوان لأن يدخل العراق حقبة جديدة من تاريخه، حقبة من الانفتاح والسلام الداخلي وانفراج الطريق بين الشعب والنخبة الحاكمة. لهذا الوضع السياسي ليس ثمة من مسوغ ولا مبرر ولا فائدة.
على أن قبول العراق بالقرارات الدولية وتعاونه مع الأمم المتحدة لن يكفي بحد ذاته لمنع الحرب، حتى وان صادف قبل هذا التوجه استحسانا ودعما من دول كروسيا وفرنسا. ولكن من الضروري أيضا أن يتبلور موقف عربي واضح ضد الحرب، موقف يضع في اعتباره المخاطر الهائلة التي ستترتب على وقوع الحرب. طوال الشهور القليلة الماضية، ونظرا لعدم وضوح الموقف العراقي والخلل الواسع في ميزان القوى، اتسم الموقف العربي الرسمي بالإزدواجية. بعض من عارضوا الحرب علنا من دول الخليج كان يفتح قواعده لحشد القوات الأميركية، والبعض الآخر من الدول العربية عارض توجهات الحرب في ظل حالة من الاستسلام للقدر الأميركي. في حال قبول العراق للقرارات الدولية، سيكون بإمكان الدول العربية المختلفة أن تقول لا واضحة وقاطعة للحرب. بدون هذه اللا لن تستطيع لا روسيا ولا فرنسا معارضة السعي الأميركي الحثيث لشن حربها المدمرة على العراق وكل المنطقة. هذا أو حقبة طويلة مقبلة من عدم الاستقرار، والنزاع والكوارث المتتالية
العدد 27 - الأربعاء 02 أكتوبر 2002م الموافق 25 رجب 1423هـ