كل ما يمسُّه الشعر يكون حادَّا؛ وخصوصاً في حضرة الحروب والمنافي واللجوء والمقابر، وبدرجة خاتمة: الموت. هكذا توغل بنا الشاعرة الفلسطينية السورية رنا زيد، في مقال/نص، نُشر في دورية «بدايات» في عددها الثالث عشر لشتاء العام 2016، وحمل عنوان «تصحيح خطأ الموت»، مؤرِّخة بالشعر لكل ذلك.
تؤرِّخ للتفاصيل الصغيرة التي تكبر في المكان البارد والبعيد، من خيط الحذاء، إلى الملابس المختلفة، تلك التي نتباهى بها في أمكنتنا الأولى، فيما هي في المنافي تضعنا أمام حقيقة المكان، وأمام أسئلة من قَبِيل: هل للمنافي حدود يمكن أن نتعرَّف عليها؟ ربما تبدأ من الحروب في أمكنتنا الأولى، تلك التي وبشكل تلقائي منحتنا التناثر في جهات الله، بحثاً عن سماء ضرورية، ووضوح ضروري يدل على أننا من رعايا هذا العالم.
نأياً بشكل مؤقت عن «تصحيح خطأ الموت»، إلى كتابة أخرى لرنا زيد لا تبرح رصْد الحروب والأشلاء والمنافي واللجوء والمقابر، وبضرورة خاتمة: الموت. كتابة حملت عنوان «أخذنا ساقك المبتورة لندفنها حيّة»، نشرت في صحيفة «الحياة» بتاريخ 17 أغسطس/آب 2014، نقرأ فيها «أنا النرجس السوري، المحارب (أ. إ). لم أتمكَّن من زيارة قبري، في مدينة الباب الحلبية الريفية. سيطر (داعش) على المنطقة. لكنِّي رجعت من موتي، كي أقتل قاتلي».
يحدث كثيراً أن تتولَّد الخرافة من الوضوح الفاقع. الخرافة لا تحتاج دائماً إلى غموض كي نمتحن مواهبنا في اختبار التأويل. هي نفسها تقدِّم التفسير النهائي لهذه الهستيريا التي لا تريد أن تنتهي. يُقال لنا: إن العالم يحتاج إلى الوضوح الضروري كي يعيد رسم خرائطه ومسالكه وتحديد مواقع البشر، في بيوت كانوا أو مقابر جماعية، لا فرق. تضعنا رنا زيد أمام من يكلِّم جثته لفرط الفراغ الذي ينتاب العالم. لا أحد سينصت إليك سواك؛ حياً كنت أو ميتاً. أنت من ستصغي إليك.
تكتب ثانية في النص نفسه «لم أدرك أنني متُّ، بعد. أتى أبي إليّ، بعد عملية البتر، بثلاث ساعات، وقال: أخذنا ساقكَ لندفنها، كانت لا تزال نضرة وليدة، تنزُّ دمها، وكأنها على قيد الحياة». قلت له: أمَا زالت حية؟ أهي حقاً لم تمتْ؟!. لقد قبَّل أبي وأعمامي ساقي المبتورة، ودفنوها في المقبرة القريبة من المستشفى، وكتبوا: قبر الشهيد أ. إ».
تصحيح الحياة الخطأ
في «تصحيح خطأ الموت»، عنوان النص، محاولة لتصحيح اليسير من الحياة الخطأ؛ وسط اتحاد شبه كوني يبدأ بمحو البشر كي تكون الحدود والجغرافيات مؤهلة ولائقة لإعادة رسْمها! إعادة رسْمها ولو كانت من دون بشر.
كتابة تُقارب اليوميات ولكنها ليست كذلك. هل الأيام متشابهة في المنافي؟ وهل ثمة جدوى من تسجيل أيام متشابهة، وإن تلوَّنت الأحداث فيها؟ على رغم ذلك، تصبح هي الأخرى متشابهة.
في المنفى يبدو الغياب حاضراً بكل حواسه. في أكثر من شكل وهيئة وطعم ولون أيضاً يحضر. حتى التفاصيل اللصيقة بأي منا في منفاه لا تعود كما هي قبل أن نغادر الأرض التي لم تعِدْنا سوى «بالسعي في الأرض» خوفاً على الحياة، ليتلقَّفنا الموت اليومي في بلاد أولها برْد، وأوسطها مرارات، وآخرها خوف من المجهول!
العواصم التي تتراءى من بعيد على أنها جنة الله المؤجَّلة لنا، بدءاً من باريس، لندن، كوبنهاغن، أمستردام، وغيرها تستضيف الغرباء الأموات. كي تعلِّمهم درس القيمة. قيمة البشر التي تُكال بالانتماءات والأحزاب والطوائف والعشائر في بلدانهم. وعلى ذلك الدرس أن يكون قاسياً وصلْفاً كما يجب، وإن لم تبدر من تلك العواصم والمدن ما يدل على التبرُّم في حده الأدنى.
«أعيش هنا في باريس قرب مقبرة غرونيل في شارع سان شارل. هنا، في أكثر الأحياء الفرنسية أرستقراطيةً، لا شيء يدل على أنني موجودة، ولا شيء يثبت أن هذا الوجه الذي أخفيه بيدي، هو وجهي».
تضعنا رنا زيد أمام قيمة الإنسان نفسه تبعاً للقارة التي ينتمي إليها، أو على أقل تقدير، تبعاً لحدود وجغرافيات تتباين في درس القيمة، قلَّت أو كثرت فيما بينها. يأخذ السرْد منحى التعرية الكلِّية لما لم يتم النظر إليه. خارج الحدود يمكن لأي منا أن يرى نفسه بوضوح أكثر، وهو نفسه الوضوح الضروري، كي يتلاءم مع فصول جديدة من المأساة وإن كانت ناعمة. هل ثمة مأساة ناعمة وأخرى غليظة؟ يكفي أن تكون داخل وطنك كي تكون محور المأساة، ويكفي أن تكون خارجه كي تكون موضع تجربة جديدة، وفضاء أوسع لاستكشاف تلك المأساة!
«أنا مجرد شخص موجود، قد يكون أتى من القارة الآسيوية، أو أي بقعة أخرى في الأرض، أنا شخص غير موجود، لأن وجوده على هذا الحال، هو اللعنة».
الشبحيُّ فوق خوفه
تقرِّب لنا رنا زيد الشبح الذي لم نرَه. ليس شبحاً غريباً عنَّا. هو ذاته الشبح الذي توارى في المكان الذي من وظيفته امتصاص الصدمات، وتخفيف وقع المأساة. ليست دمشق وحدها التي ترزح تحت وطأة صناعة الشبح، لا بفعل الحرب وحدها. الحرب جزء من صناعة ذلك الشبح؛ بل بفعل شهيَّة الموت المفتوحة التي كثيراً ما تلحُّ باسم «الثورات مدفوعة الثمن» تلك التي لم تقرب منها رنا زيد. تريد لها أن تكون «ثورة» منسلَّة من المجاز، إلى المباشر من الدخول في صفقة مع الذين لم يستطيعوا تحرير أوطانهم، فانهمروا من الأرض بلحاهم/الأنياب، بفعل يوتوبيا مضادة لن تنجب سوى الجثث والموت والانحياز إلى المنافي في نهاية المطاف.
والحديث عن الحياة السابقة، لا يجعل من الحالية حياة وسط كل هذا الفائض من عذاب الروح. وفي المُضمر من الكتابة، إحالة إلى الوطن، تضعنا أمامها رنا زيد؛ لكن نحتاج إلى استعادة ما كتبه محمود درويش ذات توصيف خارج على المرئي وكذلك اليومي... خارج على التعريف المُمل لذلك الحيِّز من التراب «الخريطة ليست إجابة. وشهادة الميلاد صارت تختلف. لم يُواجه أحد هذا السؤال كما تُواجهه أنت منذ الآن والى أن تموت, أو تتوب أو تخون. قناعتك لا تكفي لأنها لا تغيّر ولا تفجّر ولأن التيه كبير... ليست الصحراء أكبر من الزنزانة دائماً». وكذلك الأمر، ليس المنفى أكبر من الزنزانة، ويظل صحراء مهما أُثِّث بما ينعش العين؛ لكن من قال إن العين ترى وسط العتمات التي لا تنتهي»؟
«الحياة السابقة في دمشق جثة عفنة لا أدري أين أدفنها؟ هناك، حيث لم يكن ليحدث أمر، ولم يكن شيء ليتغير، لولا الثورة. كنا كمن تلاشى في خوفه، ونحن الآن كمن ظهر شبحياً فوق خوفه».
ثمة جنون غير مرئي على مستويين، مستوى تمارسه الكتابة بذلك التداعي الذي لا حدود فاصلة بينه، ولا ركائز تحول دون حدوثه، ومستوى الجنون المُمارس على الأرض. الجنون في درجاته الرديئة والقاتلة في الوقت نفسه.
كأن الجنون وحده هو النظام القابل للتعايش معه. الفوضى هي الأخرى لها نصُّها الإلزامي في التعايش. تعايش يتحدَّد في موهبة الخروج من هذا العالم من دون ضجيج؛ لا بفعل خيار مُتاح؛ بل بفعل ضرورة تحدِّدها أطراف تظل تتبرَّم من أن هذا العالم لا يكفي لنزهة عابرة مع كل هذه الأكوام البشرية المتكدِّسة فيه. لابد من إفراغه من الآخر... المختلف... البعيد عن الشبَه، والضالع في الشُبْهة!
كأنه النظام في الآن نفسه، حين يتحول الجنون وضمن تلك المستويات إلى نظام يحكم الحياة، تعود الأشياء الكبيرة إلى ضآلتها الأولى... تمَّحي وتكاد لا تُرى بأي من الحواس.
«هل نحن كائنات آلية، بعد مجمل جنونٍ صامتٍ عشناه؟ إن شعوراً هائلاً ينتابني، بأن قدرتنا الضئيلة متاحة، فقط، في فعل تدميري ذاتي تجاه أنفسنا. نحن ندمّر هذا النظام الذي خُلقنا به، منذ عقود».
لا تتردد الحروب والذين يشعلونها. لا تتردَّد المنافي والذين كانوا السبب في اللجوء إليها. لا تتردَّد المقابر والذين يعملون على اكتظاظها، في الادَّعاء بأن السر في وجودها هو تصحيح الحياة، كي يقع الخطأ على الموت!
مقاطع من «تصحيح خطأ الموت»
«في طريق القطار الطويل، من باريس إلى كوبنهاغن، كانت رحلتي مشوبة بالألم الجسدي، فامتناعي عن استخدام الطائرة بسبب الخوف من الطيران لم يخفِّف من أهوال رحلة الأرض. عند الطريق البحري، الذي يفصل بين ألمانيا والدنمارك، كنت أفكِّر في كل رحلات السوريين التي تتالت في منتصف العام 2015 في شكل يتجاوز مفهوم النكبة الفلسطينية، ويتخطَّاه في الرِّهاب والتنكيل. إنها رحلة تتجاوز القتل إلى الموت، وما يُقصُّ من مُجريات الرحلات ما هو إلا مزحة عابرة».
«البحر بلعني، وبلع ذاكرتي، البحر أكلنا نحن السوريين كحَسَك السمك، والأرض كلها كانت تُشاهد. خاطبني أحد الركَّاب من المقاعد المُجاورة باللكنة العامية السورية: القطار سيدخل السفينة، ثم سنصعد إلى طوابق السفينة العليا، وسنبحر نحو أربعين دقيقة في البحر حتى نصل إلى الدنمارك. شكرته. همس لي: أحاول تخفيف خوفك. أنا فلسطيني سوري لاجئ في الدنمارك».
«لمحت طفلاً رضيعاً قد نام على كتف أمه. قالت لي الأم إنه وُلد تحت القصف، واجتاز بحر اليونان دون أن يُدرك ما يجري حوله، وأنه كان يضحك من مشهد الماء؛ إذ اعتقد أنه في نزهة. نعم يا صغيري، نحن في نزهة، نهدهد خلالها الدول لننام فنسرق حدودها ليمر الغرباء، ونحن الغرباء ونشبه الغجر».
«القطارات الدنماركية السخية مهيَّأة لنقل اللاجئين السوريين إلى مالمو السويدية، البلد الضئيل عدد السكَّان. في الدنمارك لم يكن مُرحَّباً بهم. لكن ناشطين دنماركيين مخلصين للثورة السورية ساعدوا على إتمام الرحلة دونما ضغوط في العبور. لذا توجَّه السوريون إلى بَرٍّ آخر، بقلوب ملوَّثة بالطحالب، وبعيون يقِظَة من أي طعنة ظَهْر. أيها البحر، أنا هيكل بلاستيكي طافٍ، إلى نهاية الألم، في المضيِّ، وفي العودة، صوب مقبرة غرونيل الباريسية».
رائع جدا