نادى الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس أحد معاونيه هامساً في أذنه: أريد أن تطلبوا لي من إحدى شركات التصنيع قلماً بهيئة رصاصة! ثم أضاف: أُكتُب ما سأمليه عليك: «الرصاص كَتَبَ ماضينا لكن التعليم هو الذي سيكتب مستقبلنا»، طالباً منه أن تُكتَب هذه العبارة على القلم المطلوب. كان هذا في شهر يونيو/ حزيران الماضي.
شُذِّبَ القلم بعد أن دُوِّر ومُهِرَت عليه تلك العبارة وأصبح جاهزاً لأن يسيل منه الحبر. كانت مناسبة استخدامه هو اتفاق السلام المبرم بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) الذي أنهى صراعاً دموياً دام خمسين سنة ونَيِّفاً، وأدّى إلى مقتل ما بين 220 و260 ألف إنسان، وفقدان 45 ألفاً آخرين ونزوح سبعة ملايين مدني وتلف آلاف الهكتارات من الأراضي.
وفي لحظة التوقيع الذي حضره ألفان وخمسمئة من المدعوين، بينهم 15 رئيس دولة وأربعمئة من ضحايا الحرب، ومئة مسلح من فارك فضلاً عن مسئولين أمميين، وقف الرئيس سانتوس وقال كلمة في غاية الدلالة والمعنى: «أُفَضِّلُ اتفاقاً غير كامل يُنقِذ أرواحاً على حرب كاملة» لا تُبقِي ولا تَذَر. كان مشهداً حُبِست فيه الأنفاس.
ثم وقف الرئيس وصافحَ خصمه قائد «فارك» رودريغو لوندونيو، الذي قال أمام الملأ وعدسات الكاميرات: «باسم القوات المسلحة الثورية الكولومبية، أعتذر بصدقٍ لجميع ضحايا النزاع عن أي ألم قد نكون تسببنا به أثناء هذه الحرب». كلمات اهتزّت لها منطقة كارتاهينا بل كولومبيا بأسرها.
وفي هذه الأثناء حلقت طائرات حربية فوق المحتفلين فسارع لوندونيو قائلاً والابتسامة تغلب على وجهه: «تيقنوا، أن هذه الطائرات جاءت لتبارك اتفاق السلام وتُحيِّيه وليس كي تلقي القنابل». أما الرئيس فقال: «لا حرب بعد الآن! لا حرب بعد الآن!» فردَّد الحاضرون معه ذلك الشعار بقوة.
كان الاتفاق قد سُطِّر في 297 صفحة بعد أربع سنوات من المفاوضات في العاصمة الكوبية هافانا، لم تنته إلاّ في 24 أغسطس/ آب الماضي. وبعد أن عُرِضَ على الكولومبيين في استفتاء عام عارضه 3 ملايين و405 آلاف و809 أشخاص (50.23 في المئة) وأيّده 3 ملايين و373 ألفاً و941 شخصاً (49.76 في المئة).
طلب النصف المعارض تعديل 500 بند من الاتفاق، مهدداً أنه إذا لم يتم الأخذ باعتراضاتهم فإنهم سيرفضونه. سُلِّمَت الملاحظات لـ فارك، فوافقت على 499 بنداً منها ورفضت واحداً قبلته الحكومة الكولومبية! ولنا أن نتخيّل حجم الجانب الطَّيِّع من الطرفين كي يمضي الاتفاق دون منغصات. ويوم الخميس الماضي وفي مسرح ضخم بالعاصمة بوغوتا، وُقِّعَ الاتفاق بذات القلم المُشَكَّل على هيئة رصاصة.
والحقيقة أنه ليس فقط طرفا النزاع مَنْ ساهما في إنجاح الاتفاق الأول والثاني، بل هناك أيضاً أطراف ساهمت بإنجاحه بصورة لا تقل عن الطرفين الأساسيين فيه، ألا وهي الدول المحيطة بكولومبيا وواحدة من خارج القارة اللاتينية. لقد لعبت كل من كوبا (أساساً) وفنزويلا وتشيلي والنرويج، دوراً مهماً في إنجاح ذلك الاتفاق وتعضيده وضمانه. وهو دور يُعطي درساً سياسياً للعالم بشأن المسئوليات الحقيقية الملقاة على جوار الدول الملتهبة كي تلعب دوراً إيجابياً في التسوية فيه.
كان يُمكن لتلك الدول اللاتينية أن تأتي بجيوشها إلى كولومبيا لقتال الحركة اليسارية لكنها لم تفعل، لأنها تدرك بأنها ستقاتل 21 ألفاً من المسلحين وجهازهم اللوجستي ليس في جنوب شرق البلاد حيث إل ديامانتي في عمق منطقة كاغوان، بل ستنجر كل الأراضي الكولومبية إلى الصراع، وسيزداد الشرخ الاجتماعي والطبقي والسياسي أكثر فأكثر.
وكذلك كان موقف الاتحاد الأوروبي الذي حيّا الاتفاق ووعد بتقديم 676 مليون دولار لدعم كولومبيا واتفاق السلام الموقع كمراقبة وقف إطلاق النار وإزالة الألغام المزروعة، وتطبيق بنود العدالة الانتقالية والمشاركة السياسية لجبهة فارك ومناصريها وتنمية المناطق التي شهدت دماراً نتيجة الحرب المدمّرة طيلة السنين الخمسين الماضية.
وأرى من الواجب هنا الإشارة (إذا ما أردنا الإنصاف) إلى الزعيم الكوبي الراحل تواً عنا فيدل كاسترو، الذي تصادفت وفاته بعد يومٍ واحد فقط من توقيع الاتفاق الثاني الذي جاهدَ من أجله (ومن أجل سابقه) كي يرى النور وتهدأ قعقعة السلاح. لقد خَتَمَ كاسترو حياته بعمل سياسي «سلمي» جبَّار، حين أنهى أطول صراع مسلح داخلي تعرفه البلاد، «وربما» لم تشهده أغلب دول العالم حتى.
هذا هو منطق الجوار السليم في حل الأزمات السياسية، وهو المنطق الذي يمنح فرص الحياة لملايين الناس ويكسب عقولهم وقلوبهم، ويجعلهم مساهمين في تعزيز ذلك الحل كونهم جزءًا أصيلاً من مشهده السابق، كما حدث اليوم مع عشرات الآلاف من جبهة فارك والملايين من أنصارهم، الذين أصبحوا بذات الاندفاع الذي يتمتع به الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس.
اليوم، منتسبو فارك وبعد أن كانوا يحملون البندقية وقاتلوا عشر حكومات كولومبية متوالية وأحزاباً يمينية مسلحة موالية للسلطة، باتوا يدفعون بعضهم في برامج إعادة الدمج ولكن في الحياة السياسية والمدنية كي يُنقذوا بلداً «إنديزياً» هو الرابع من حيث القوة الاقتصادية في أميركا اللاتينية. فالجميع يستنشق حروف سيمون خوريه أنطونيو دي لا سانتيسيما ترينيداد بوليفار إي بالاسيوس الخمسة والخمسين والذي وحّد خمس دول لاتينية من بينها كولومبيا، وآن الأوان كي يُعاد الاعتبار لجهوده، والتي لن تتحقق سوى بالانحياز نحو خيار المصالحة السياسية ثم التنمية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5196 - الأحد 27 نوفمبر 2016م الموافق 27 صفر 1438هـ
بورك قلمك
عندما اقرأ اليك اراك في وزيرا للخارجية لا تسألني لماذا وكيف ولكن هذا ما اراه كلما قرأت لك
مقال مميز
شكرا أستاذي
مقال فيه عبر
عندما تتحلى الشجاعة من قبل اطراف الحكومات والمعارضة . وبالاخص الحكومات بحيث تعترف بالطرف الآخر وليس تهميشة ومحاربته واحلال مواطنين جدد من الخارج. والاعتراف بالاخطاء من قبل الطرفين عندئذ تحصل الثقة ويبدأ معها بناء الاوطان على اساس العدالة والكفاءة
مقال جميل ومليء بالمعلومات... أحييك
مقال ممتاز ومعرفة جديدة والاسقاط كان جيدا.
احسنت
All artical wonderful thanks Mohammad