تبرز بين الحين والآخر مقاربات تتعلق بالرواية العربية، والأفق العالمي الذي تسعى إلى بلوغ تخومه على أقل تقدير. ما الشروط والمناخات التي يجب أن تحتويها؟ من يحدِّد أن رواية ما تمتلك حظ أن تكون ندَّاً لأعمال عالمية؟
الأسئلة في هذا الشأن تظل عالقةً، من قَبِيل: ما هي المواصفات التي تتحدَّد من خلالها عالمية أو محلية أي عمل من الأعمال؟ ماذا عن الأعمال العالمية نفسها، ألم تنطلق من المحلي في كثير من معالجاتها وتناولاتها؟ هل يتيح إهمال البيئة المحلية فرصة لبلوغ العالمية، هكذا قفزاً على المكان وظواهره وإشكالاته؟ ألم يحقق الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ حضوره العالمي، بفوزه بجائزة نوبل للأدب، من المحلية التي ظل وفياً لها في عشرات الروايات التي أنجزها، ومئات القصص القصيرة؟ ألم يشكِّل المكان، والنماذج البشرية والنفسيات تقاسيم ليست بمعزل عمَّا هو موجود في الحدود البعيدة عن أعمال مثل: «كفاح طيبة»، «القاهرة الجديدة»، «خان الخليلي»، «زقاق المدق»، «السراب»، و «بداية ونهاية»، و «ثلاثية القاهرة: «بين القصرين»، «قصر الشوق»، و «السكرية»، من حيث النوازع وما ينتج عنها، وإذ تنطلق من خصوصية المكان لا تتعامل مع نوازع غير بشرية، ولا تتعاطى مع شخصيات هلامية ليست موجودة أو لا تُحسب على الكائن البشري.
ثم ماذا نعني بالأدب العالمي؟ علي البديري، في مقاله «وقفة مع مفهوم الأدب العالمي»، يُحيلنا إلى رؤية الأديب الألماني غوته الذي يُعتبر أول من وضع ذلك المصطلح في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وكان يعني به تحقيق الآداب القومية «حضوراً عالمياً بفضل تطوّر وسائل الطباعة والنشر والنقل نتيجة الثورة الصناعية التي غيّرت الحياة في الغرب»؛ الأمر الذي سينعكس على التأثير على واقع الآداب «ويخرجها من حدودها القومية الضيقة باتجاه العالمية».
أين تتجلَّى العالمية؟
في استطلاع مجلة «الدوحة» في العدد 100، «الرواية العربية وأفق العالمية»، والذي أعدَّه سعيد بوكرامي، وشارك فيه عدد من الروائيين والكتَّاب العرب، من بينهم: الكاتبة المغربية زهور كرام، الروائي السوداني أمير تاج السر، الروائي الأردني إلياس فركوح، الناقد والأكاديمي المغربي عبدالمالك أشهبون، الكاتب المصري شريف صالح. الروائي السوري خليل صويلح، الناقد السعودي محمد العباس، والكاتب الجزائري بشير مفتي، تبرز مقاربة الكاتب المصري شريف صالح، بسبب ذهابها في الاتجاه العكسي في تقييم واقع الرواية العربية اليوم وأهليتها لأن تتبوأ مكانتها في فضاء العالمية؛ إذ يرى أن الإصرار على العالمية بالصورة الفجَة التي تبدو عليها، يعكس حالة دونية، وأعراضاً كولونيالية «طالما أننا ننتظر اعتراف الآخر بنا ورضاه عن إنتاجنا». ولنا عودة في استنطاق مقاربة صالح، في ثنايا الكتابة.
الاستطلاع انطلق من سؤال مركزي لم يبتعد عمَّا بدأنا به هذه الكتابة، وإن جاءت أكثر تفرُّعاً، ويتحدَّد السؤال في: هل وصلت الرواية العربية إلى العالمية، في الوقت الراهن؟ وأين تتجلَّى هذه العالمية؟ وما هي المعوِّقات التي تحدُّ من عالميتها؟
كما توخَّى الاستطلاع تحريك السؤال عن العالمية كمفهوم، وعلاقته بالمُنجز الروائي العربي، الذي وجد دوائر اهتمام به بدافع من قيام جوائز عربية ذات اعتبار؛ الأمر الذي أتاح لها فرص ترجمتها إلى اللغة الأولى في عالم الأدب، كما هي الحال لغة الاقتصاد والسياسة، والمعارف عموماً. ما يرتبط بالأسئلة السابقة، وبشكل صميم هو: هل نشر بضع روايات، بلغات أجنبية، جعل من هؤلاء الروائيين عالميين؟
ثمة إغفال هنا لظروف التي توجد فيها الكتابة والكاتب، كما هو إغفال لواقع الكتاب وقرَّائه في العالم العربي، وإغفال لطبيعة تعاطي دور النشر والحلقات المتصلة بالكتاب والكاتب. بعض تلك الإشارات ربما وردت في ثنايا الشهادات التي أدلى بها عدد من المشاركين في الاستطلاع، ولكنها لم تلامس عميقاً ذلك الواقع وحقيقته.
هي نزهات عابرة فحسب!
حين نقول، إن الكاتب المصري شريف صالح، قدَّم مقاربة تمايزت عن بقية المقاربات - كما ورد في مقدمة هذه الكتابة - لا يعني ذلك الاتفاق مع كل ما ورد فيها؛ إذ لم تخْلُ المقاربة تلك من «استسخاف لجهود روائيين باتت ظاهرة، وذات اعتبار في كثير من الدوائر الغربية، كما لم تخْلُ رؤيته من الشعور بالدونية، وهو التوصيف الذي قدَّمه في مداخلته. كأنه هنا يقع في حال من التناقض الذي سها أو تغافل عنه. لكن ذلك لا يعني في الوقت نفسه تعليق استنطاق تلك المقاربة بما لها وما عليها.
الروائي السوري خليل صويلح من جهته، مقتنع أن عالمية الرواية العربية هي «تفاؤل في غير مكانه، ذلك أن الرواية العربية لم تخرج من الحدود إلا في نزهات عابرة، فنوبل محفوظ لم تجعله عالمياً»، كما يقول، بخلاف قراءات وتنويهات في الغرب، علَّ من بينها شهادة غابرييل غارسيا ماركيز نفسه فيما قرأ من أعمال محفوظ، من دون أن ننسى الكاتب السوري بدر الدين عرودكي المقيم في فرنسا، الذي أشار إلى أن ترجمة روايات محفوظ إلى الفرنسية بدأت قبل حصوله على جائزة نوبل. ففي العام 1985 نشرت «بين القصرين» الجزء الأول من الثلاثية في أربعة آلاف نسخة نفدت خلال أشهر فاضطرت دار النشر إلى طرح طبعات أخرى، موضحاً أن «بين القصرين» حظيت بما لم تحظ به رواية غابرييل غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة» عندما تُرجمت إلى الفرنسية - ويرى صالح أن هناك صخباً إعلامياً يضع الرواية في مقام، لم تطله فعلياً.
سرديات سوسيولوجية
ثمة رؤية لم تخْلُ من الارتجال تلك التي قدَّمها السوري خليل صويلح؛ إذ نسأل: ما هي المستويات التي يجب على الرواية أن تكون عليها كي تبلغ تلك المقامات؟ وإذا لم يحقق الفعل الإنتاجي للرواية العربية الممتد لأكثر من قرن، بلوغ المقام - بحسب مواصفات صويلح - فما الجدوى من كل هذا الضخ اليومي، والاحتفاء هنا وهناك، خارج الدائرة العربية، التي وإن أهملت وهمَّشت الأعمال الفارقة؛ إلا أن فرص ترجمتها حقق لها وضعية في تلك المقامات المطلوبة التي ينفيها صالح عن الرواية العربية.
يشير صويلح إلى أننا نقرأ عن ترجمة رواية، لكننا لا نعلم مصيرها بعد ذلك. «ربما - في أحسن أحوالها - تذهب إلى أرشيف مكتبات الجامعات والفضاء الأكاديمي، ليس بوصفها روايات منافسة بقدر ما هي سرديات سوسيولوجية، تفيد بمعرفة نمط تفكير العالم العربي والإسلامي».
إذن، لا تتجاوز الترجمة - بحسب مقاربة صويلح - كونها اكتشافاً لتفكير بيئات تعيش اضطرابات وحروباً، أكثر من كونها إضافة جمالية لسرديات الشعوب الأخرى.
كما تبدو مقاربة صويلح مستفزَّة في كثير من تفاصيلها، ويبدو من مُحترفي «تكسير المجاديف» إن صح التعبير. ثمة نبرة تعالٍ، ثمة إحباط تتعهَّد بتوصيله تلك المقاربة، في أحلك درجات نظرها إلى المشهد الروائي العربي اليوم؛ لذا يختم صويلح مقاربته بالقول «آمل أن تصل الرواية العربية إلى قرَّائها من العرب أولاً، ثم نفكِّر بعالميتها! ترجمة رواية عربية إلى لغة أخرى نوع من المخدِّر المعنوي لصاحبها، وسطر إضافي في سيرته المهنية، لا أكثر».
إشكال ربط العالمية بالترجمة
الكاتبة والروائية المغربية زهور كرام، صاحبة رواية «جسد ومدينة»، تنبِّه إلى أن هناك خللاً في مفهومنا للعالمية، وفي محاولة منها لتقويم ذلك الخلل تبدأ من هذا التساؤل: هل تضمن الترجمة انتشاراً موسَّعاً للروايات المترجمة، ما دام الانتشار عنصراً إجرائياً للعالمية، أم أن العالمية مجرَّد نقل للرواية، من لغة عربية إلى أخرى؟ لتجيب بالقول: «إن انتشار هذا المفهوم، للعالمية، جعل الكثير من الكتَّاب يبحثون عن ترجمة أعمالهم، دون الاهتمام بما يمكن أن تُحدثه رواياتهم في السياقات الأخرى».
ثمة إجراء آخر يتطلَّب مواكبة الأعمال الروائية تلك بوضعها تحت مجهر المنهجية النقدية القادرة على استخلاص قيَمها الجمالية، وما تحمله من معالجات لابد أن تكون عميقة وليست مكرورة، وكأنها صدى لمعالجات سبق أن أعيد إنتاجها، في دورة مكشوفة ومفضوحة في كثير من الأحيان. وفي هذا الشأن تشير إلى أن ترجمة الأعمال تلك تتم «دون مرافقة وصفية ونقدية، وثقافية، لوضعية الرواية في سياقات غير عربية»، ومن هنا يظل ربط العالمية بحركة الترجمة فاقداً لجوهر العالمية.
وليس بعيداً عن المقاربة التي تقدِّمها كرام، ترى أن عالمية الرواية تتحقق «عندما تنتشر التمثلات والتصورات التي تشخِّصها الرواية، وتوضع جنباً إلى جنب مع تمثلات وتصوُّرات السياقات المستقبلية، فيحدث نوع من الحراك» قد يأخذ طابع الاصطدام أو الصراع أو الحوار. والأهم في تلك المقاربة تلخصِّه كرام بإشارتها إلى أن الشيء المهم الذي قد تحدثه عالمية الرواية، هو قدرتها «على تفكيك رتابة التصورات عن الآخر، وحثِّها على استقباله، من خلال تمثلاته الرمزية التي تجسدها».
التأصيل في الالتصاق بالمحلية
الناقد والأكاديمي المغربي عبدالمالك أشهبون، كان على مطابقة مع ما طُرح من تساؤلات في بداية هذه الكتابة، وهي تستجلي «المحلية» العميقة والمخلصة والمتنوعة التي اشتغل عليها الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ، تلك التي قادته بجدارة إلى أن يحتل مكانة بارزة بين كبار الروائيين العالميين، حتى ما قبل حصوله على جائزة نوبل في العام 1988.
النماذج البشرية موزعة في كل مكان... وكذلك الأمكنة، وتقلبات الأزمنة، وتبقى القيمة العميقة والحقيقية في انتشال كل ذلك ومعالجته ضمن المحلية، فيما هو يصوغ عالمية تلك المعالجة، كلما كانت الأفكار عميقة وقادرة على استجلاء القيم المتناثرة والمتوزعة في هذا الكون اللامحدود.
أشهبون يرى أن نجيب محفوظ جعل من البعد الإقليمي القطْري، في رواياته، الوسيلة الأنجع نحو بلوغ العالمية، مستعرضاً عدداً من أعماله التي رصدت المكان والبشر والسلوكات والوعي الفردي والجمعي، مستنتجاً أن محفوظ صعد سلَّم العالمية من أول أدراجه «أي من اهتمامه المفرط بما هو محلي، بحيث لا نجد عنوان مدينة عربية أو غربية في خضمِّ عناوينه الروائية». وصولاً إلى ما أسماه أشهبون بالدرس البليغ الذي حدده في ضرورة تأصيل الأدب العربي وجعله أكثر التصاقاً بقضايا الواقع المحلي.
كرة القدم... الرواية
الكاتب المصري شريف صالح ارتأى أن تكون السخرية مدخلاً لتقديم رؤيته في الاستطلاع، واضعاً مفهوم «العالمية» ضمن مقاربة في عالم كرة القدم، مشيراً إلى أنه «لدينا لاعبون من أصول عربية، لكنهم وُلدوا في ثقافات أخرى، وعاشوا فيها، وانتسبوا إليها، و - ربما - لا يعرفون اللغة العربية إلا لُماماً: زين الدِّين زيدان - مثلاً - سنجد له شبيهاً في الكتابة، مثل أمين معلوف، الذي يكتب عن شرقنا باللغة الفرنسية»، مستمراً في المقاربة نفسها، وضمن الشواهد عينها، بالتعريج على اللاعب الذي تتم إعارته إلى الأندية الأوروبية الكبيرة «فهو يظل ابناً لثقافتنا، لكنه أصبح مرئياً من شعوب أخرى»، موضحاً أن ذلك يحدث في الأدب فحين «تحقق رواية لعلاء الأسواني أو يوسف زيدان مبيعات لا بأس بها في عدَّة لغات»، لا يجعلنا ذلك مطمئنين إلى بلوغنا ذلك المقام، متسائلاً «ما نسبة هؤلاء الروائيين الذين حققوا بعضاً من الحضور لدى الآخر». تظل نسبة هزيلة كما يرى.
يثير صالح تساؤلاً آخر: من هو الآخر الذي يمنحنا صك العالمية؟ ذلك يربطنا بخلاصة مقاربته التي ابتدأنا بها هذه الكتابة، من خلال ما يعتقد أنه إصرار «على العالمية بالصورة الفجَة التي تبدو عليها، يعكس حالة دونية، وأعراضاً كولونيالية «طالما أننا ننتظر اعتراف الآخر بنا ورضاه عن إنتاجنا»؛ الأمر الذي يربطنا بالنظر إلى واقع الحياة عموماً في العالم العربي، وهل يمكن استخلاص قيمة من تلك الحياة في ظل شمولية تكاد لا تنجو منها جغرافية عربية؛ ما ينعكس ليس على قيمة وعمق وقدرة الأدب على فرض نفسه على خريطة الأدب العالمي، بل على مجمل القضايا والأمور في تلك الحياة، ومن الداخل.