العدد 5195 - السبت 26 نوفمبر 2016م الموافق 26 صفر 1438هـ

العرب... ماذا بعد إدارة أوباما؟

صبحي غندور

مدير مركز الحوار العربي في واشنطن

كانت التوقّعات العربيّة من إدارة أوباما أكبر بكثير ممّا هو عليه واقع الحال الأميركي، والتغيير النسبيّ الذي حدث فيه من خلال انتخاب باراك أوباما رئيساً. فهناك حتماً تغييرٌ قد حصل، لكنّه ليس بانقلاب ولا بثورة، بل كان حركة تصحيحية في داخل النّظام السياسي الأميركي، حملت معها تباشير تغيير ثقافي واجتماعي داخل المجتمع الأميركي، وأدّت إلى وصول أميركي أسود، ابن مهاجر إفريقي مُسلم، إلى قمّة الهرم المؤسّساتي الأميركي.

لكنّ هذا الحدث الأميركي المهمّ، الذي جرى في انتخابات العام 2008، صنعته عوامل مُشترَكة، ليست كلّها مؤيّدة لأوباما في كلّ برامجه الداخلية والخارجية، بل إنّ بعض هذه العوامل كان ردّة فعلٍ على إدارة بوش فقط أكثر ممّا هو حبّاً برؤية أوباما.

على المستوى الداخلي، فإنّ أجندة الرئيس أوباما بشأن البرامج الصحّية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية لم يكن عليها إجماع وطني أميركي، ولا موافقة عامّة عليها، حتّى من داخل الحزب الديمقراطي نفسه، فهناك شبكات ضخمة من المصالح والشركات والمصانع، مارست نفوذها الضاغط داخل الكونغرس وعبر وسائل الإعلام لمنع أوباما من تنفيذ كلّ برامجه الإصلاحية الداخلية.

وظهرت أيضاً مشكلة الرئيس أوباما داخل الولايات المتّحدة في التعامل مع الملفّ الأمني، حيث زادت الأصوات المُعارِضة لنهج أوباما الدّاعي لإسقاط شعار «الحرب على الإرهاب»، والذي استغلّته إدارة بوش لتبرير حروبها العسكرية وإجراءاتها الأمنية، ولإقامة معتقل غوانتامو وممارسة وسائل التعذيب ضدّ المعتقلين. فباراك أوباما دعا إلى رؤية تتّصف بالاعتدال في مجتمع أميركي حكَمه التطرّف لعقدٍ من الزمن تقريباً، وجرت على أرضه أحداث 11 سبتمبر 2001، وهو مجتمع قام تاريخه على استخدام العنف، وما زال عددٌ كبيرٌ من ولاياته يرفض التخلّي عن اقتناء الأسلحة الفردية وفكرة الميليشيات المسلّحة.

إنّ باراك أوباما وقف على قمّة هَرَم مؤسّساتي في أميركا، ولكنّه لم يكن الهَرم كلّه، بل إنّ طبقات هذا الهَرَم وقواعده هي الأساس فيه، لا مَن يقف على قمّته. لذلك حصل هذا التباطؤ في تنفيذ سياسات أوباما الداخلية والخارجية، وحصل التراجع أيضاً عن بعض القرارات أو الرغبات «الأوبامية»؛ فرغبات أوباما ليست أوامر ملكية أو تعبيراً عن حاكِم مطلق الصلاحيات، بل هي تمنّيات ومشاريع تمرّ في أقنية كثيرة قبل أن تصبح قراراتٍ نافذة.

طبعاً، أميركا الداخليّة والخارجيّة كانت أفضل حالاً في ظلّ إدارة أوباما ممّا كانت عليه تحت إدارة بوش، أو ممّا كان يمكن أن تكون عليه لو استمرّ الحزب الجمهوري في الحُكم، في ظلّ تأثيرات أجندة «المحافظين الجُدد» والقوى والشركات والمصانع التي تقف خلفها، إذ الخيار لم يكن بين الأسوأ والأفضل، بل بين الممكن والمرفوض، إن لم نقل بين السيّىء والأسوأ!

بدأ الرئيس الأميركي أوباما عهده في مطلع العام 2009 مبشّراً برؤية مثالية للسياسة الخارجية الأميركية، فيها التأكيد على حقّ الشعوب بتقرير مصيرها، وفيها دعوة للتعامل بين الدّول على أساس الاحترام المُتبادَل والمصالح المُشترَكة. كما كان في هذه الرؤية نقدٌ مباشر، وغير مباشر، لما كانت عليه السياسة الأميركية في ظلّ الإدارة السابقة، بخاصّة لجهة الانفرادية في القرارات الدّولية المهمّة، ولاستخدامها أسلوب الحروب في معالجة الأزمات، وما رافق هذا الأسلوب أحياناً من أساليب تعذيب لمعتقلين وتعدٍّ على حقوق الإنسان.

الآن، وبعد مضيّ ثمانية أعوام على وجود باراك أوباما في البيت الأبيض، نجد أنّ رؤيته المثالية لأميركا وللعالَم اصطدمت بواقع أميركي وبظروف خارجية دولية، أعاقا معاً تنفيذ الكثير ممّا طمحت له «الرؤية الأوباميّة». فالواقع الأميركي الداخلي يقوم على قوى ضغط عديدة (اللّوبي) تُمثّل مصالح جهاتٍ فاعلة في المجتمع الأميركي، وقد عمل قسمٌ منها على تعطيل بعض برنامج أوباما الإصلاحي الداخلي، كما حصل أيضاً في العلاقات الأميركية/ الإسرائيلية، وفي عجز إدارة أوباما عن وقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة.

ففي ظلّ حضور الضغط الإسرائيلي المؤثّر داخل الولايات المتّحدة، من خلال العلاقة مع أعضاء الكونغرس والهَيمنة على معظم وسائل الإعلام، تصبح السلطة التنفيذية في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية و»السلطة الرابعة»، أي الإعلام. والمعضلة هنا أنّ الفرز لا يكون حصراً بين حزب ديمقراطي حاكِم وحزب جمهوري مُعارض، بل يتوزّع «التأثير الإسرائيلي» (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبَين معاً، فنرى عدداً لا بأس به من «الديمقراطيّين» يشاركون في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكِمة لمصلحة هذا «اللّوبي» أو ذاك، علماً أنّ تعثّر «الرؤى الأوبامية»، ليس سببه حجم تأثير «اللّوبي الإسرائيلي» فقط، فهناك طبعاً «مصالح أميركية عليا» ترسمها قوى النفوذ المُهيمِنة تاريخياً على صناعة القرار، وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسّسات المالية والصناعية الأميركية الكبرى.

كانت التوقّعات العربيّة من الإدارة التي رئسها باراك أوباما كبيرة؛ لكنّ هذه التوقّعات بتغييرات أساسيّة في السياسة الخارجية الأميركية عموماً، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، كانت أكبر من القدرة الفعلية للرئيس الأميركي. فما حصل من تغيير أميركي، كان في الشعارات، وفي الخطوط العامّة المُعلَنة للسياسة الخارجية الأميركية، وليس في جوهرها أو حتّى في أساليبها المعهودة. صحيح أنّ إدارة أوباما لم تبدأ الحروب والأزمات المتورّطة الولايات المتّحدة فيها حالياً، وصحيح أيضاً أنّ هذه الإدارة لم تبدأ أيّ حروب أو أزمات دولية جديدة، لكنّها (هذه الإدارة) لم تَقم بعد بتحوّلات مهمّة في مجرى الحروب والأزمات القائمة، بل نجد انسجاماً كبيراً الآن مع نهج إدارات جمهورية سابقة في مسألة الخلاف مع روسيا واحتمالاته التصعيدية الخطيرة.

إدارة بوش كانت، بلا أيّ شك، بمثابة كابوس على العالَم كلّه، وعلى العرب تحديداً، لكن لم يكن من المفروض الاستيقاظ من هذا الكابوس للوقوع في «أحلام اليقظة» والأوهام بأنّ إدارة أوباما ستحمل معها الخلاص والسلام لأزمات المنطقة والعالَم.

وبغضّ النظر عن المنافسة (التي حصلت) بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب من أجل الفوز بانتخابات الرئاسة، فإنّ الصراع الحقيقي في الانتخابات الأميركية يكون عادةً بين معسكرات من الشركات والمصانع والمؤسّسات الكبرى التي تقوم عليها الحياة السياسية الأميركية. وقد نشأت لبنات الصراع الحاصل الآن بين «معسكريْن للنفوذ» في أميركا مع نهاية عقد الثمانينيات، حينما انهار الاتّحاد السوفياتي وسقطت معه حقبة الحرب الباردة، التي تعاملت معها كلّ مواقع النفوذ في المجتمع الأميركي وكأنّها حربٌ مستمرّة إلى أجلٍ غير محدّد زمنياً.

التحوّل الذي حدث بعد سقوط المعسكر الشيوعي، هو أنّ المجتمع الأميركي بدأ يشهد فَرزاً بين مَن كانوا يستفيدون من «الحرب الباردة»، ومن «الحروب الساخنة» المتفرّعة عنها في بقاع العالَم، وبين مجموعاتٍ أخرى في أميركا وجدت مصلحةً في إشاعة مناخ «العَولمة» ومحاولة تثبيت الريادة الأميركية للعالَم، عبر التحكّم بالتجارة العالمية وأسواق المال وصناعة التكنولوجيا وفق نظرية العالَم هو «قرية صغيرة واحد»!

هذا المعسكر «المالي/التجاري /التقني»، الذي يمكن تسميته اختصاراً بمعسكر «السلام»، وجد في الحزب الديمقراطي مظلّةً لمفاهيمه وأجندته، بعدما كان معسكر «صناعة الحروب والنفط» قد انخرط مع الحزب الجمهوري في حقبة ريغان (بدأت في العام 1980) وما تلاها من عهد جورج بوش الأب، وهي فترة شهدت طيلة 12 عاماً تصعيداً شاملاً في الصراع مع الاتّحاد السوفياتي وحروباً ساخنة امتدّت من أفغانستان إلى إيران والعراق ومنطقة الخليج، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان، ثمّ إلى حرب الخليج الثانية وتداعياتها الإقليمية، حيث أثمرت هذه الحروب كلّها نموّاً هائلاً في صناعة الأسلحة وتصديرها، وأدّت إلى التحكّم بالثروة النفطية وتوظيف ارتجاج أسعارها صعوداً وهبوطاً وتجارةً.

ثمّ نجح معسكر «السلام» في إيصال بيل كلينتون للرئاسة الأميركية في العام 1992، فكانت حقبة التسعينيّات، هي حقبة «العَولمة» وانتعاش الاقتصاد الأميركي والتجارة العالمية، بينما انخفضت في هذه الفترة ميزانية الدفاع الأميركي وعوائد شركات الأسلحة والنفط والصناعات الحربية.

وكما كانت فترة حُكم الديمقراطيين أيام جيمي كارتر (1976-1980) متميّزة بسعيها لتحقيق تسويات سياسية للصراع العربي/الإسرائيلي، كذلك كانت حقبة كلينتون (1992-2000)، بينما طغت الحروب على سمات حكم الحزب الجمهوري في الثمانينيات، وفي العقد الأوّل من القرن الحالي في فترتَيْ حُكم جورج بوش الابن.

وليست مصادفة أن تكون محصّلة كلّ المعلومات والتحقيقات، التي جرت حتّى الآن بشأن أحداث 11 سبتمبر 2001، قد أكّدت عدم قيام إدارة بوش بأيّ إجراءات لمنع حدوثها، وبأنّها استفادت من هذه الأحداث لتحقيق أجندة تقوم على تغيير السياق الذي عاشته أميركا والعالَم خلال حقبة كلينتون، ولتُحرِّك من جديد كلّ عناصر التأزّم والصراع في قضايا عالمية عديدة، وفي صراع دولي جديد عنوانه «الحرب على الإرهاب»، وهو صراع قالت عنه إدارة بوش إنّه مفتوحٌ زماناً ومكاناً!

وكانت محصّلة فترتيْ «بوش الابن» تَعاظُم دَور المؤسّسة العسكرية الأميركية وتضخّماً كبيراً في عائدات أرباح مصانع الأسلحة وشركات النفط. لذلك، فإنّ هذه السنة الانتخابية، هي سنة حاسمة ومهمّة جدّاً في إطار الصراع بين «المعسكرَين» داخل المجتمع الأميركي: «معسكر الحروب» الذي يدعم الحزب الجمهوري والمرشّحين باسمه لعضوية الكونغرس، و»معسكر المال والتجارة» الذي يقف بقوّة خلف الحزب الديمقراطي الآن.

إنّ الأسابيع المقبلة حبلى باستحقاقاتٍ عديدة في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، وهي استحقاقات ترتبط بأزمات سورية والعراق ومصير دولة «داعش»، فضلاً طبعاً عن اليمن وليبيا ولبنان وفلسطين. وهي حروب وأزمات دولية وإقليمية الآن، ولم تَعد مصائرها متوقّفة على الإرادات المحليّة، بل أصبحت القرارات بشأنها خاضعة لمقدار التفاهمات أو الخلافات الأميركية – الروسية. فحجم الاستقطاب الإقليمي والدّولي لأزمات المنطقة العربية، عطّل ويعطّل الإرادات المحلّية وقرارها المستقلّ، مع أنّه لا يجوز أصلاً المساواة بين كّل الأطراف المعنيّة بهذه الأزمات.

إنّ المشكلة، أولاً وأخيراً، هي في المراهنات العربية على الخارج و»متغيّراته»، وفي انعدام القرار العربي بوضع رؤيةٍ عربية مُشترَكة. فالمشكلة ليست بواقع حال السياسة الأميركية في الشرق الأوسط فقط، المشكلة أصلاً هي في استمرار المراهنات على تغييرٍ في الخارج، بينما يبقى الجمود سمةً لازمة للمنطقة العربية وسياساتها.

المنطقة العربيّة كانت، وماتزال، في حالٍ من الصراعات والخلافات التي تمنع قيام تضامن عربي، حيث بغياب حدِّه الأدنى، تصبح المنطقة فارغةً من أيّ رؤية أو «مشروع» عربي، يقابله ما يُطرَح (ويُنفَّذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودوليّة، فتكون البلاد العربيّة مُسيَّرةً في قراراتها وسياساتها. كلّ ذلك يحدث و»المشروع الإسرائيلي» ما زال يراهن على تصعيد الصراعات والفتن الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة في الداخل العربي. فهذا وحده ما يصون «أمن إسرائيل» ومصالحها في المنطقة، وما ينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، وما يجعل «العدو» هو العربي الآخر، وما يُنسي شعوب المنطقة القضيّة الفلسطينيّة، وما يجعل بعض «الثورات» العربية الحاصلة قوّة إسقاطٍ لكياناتٍ وأوطان، لا لحكوماتٍ وأنظمة فحسب.

إقرأ أيضا لـ "صبحي غندور"

العدد 5195 - السبت 26 نوفمبر 2016م الموافق 26 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً