العدد 5195 - السبت 26 نوفمبر 2016م الموافق 26 صفر 1438هـ

قصة قصيرة... النقاشة وثقب الأوزون

يقرأ ابنها الصغير بصوت صاخب كتيّباً مدرسياً غاصاً بالحشرات والأشجار والغازات والبيئة المعذّبة، وبينما هو كذلك يقول لها وهو يزيح بيده اليسرى حقناً فائضة بالحناء عن طاولة الأكل الوحيدة التي تتحول إلى مكتب كل مساء لينجز عليها الواجب المدرسي كما واجب الغذاء وتقطيع كرات البصل والجزر والكلام والألم وخذلان الحرص والصبر غير الجميل، ولتسقط عليها الرؤوس المُتعبة بحيث يقرع خشبُها خشب الأفكار المترنحة التي تخثرت على الطاولة ما إن لامست مزيج الحناء والدوليو (1) وعصير الحامض وأفرزت خليطاً فوّاراً لا أعلم له اسماً مضبوطاً لكنه يشبه... شيئاً يمكن أن نصفه بلحم الخزي أو بسمّ الحواسّ... أو بشيء آخر يكون حاراً وعصياً ولائقاً بقبائل الفوضى والتعب التي ترقص في رأس حنان النقّاشة (2).

كنت سأقول بأن ابنها، أزاح حقن الحنّاء من الطاولة بيده اليسرى، أزاحها بحركة متأففة قائلاً لأمه بأنه قرأ كثيراً عن البيئة وأن المعلم في المدرسة أيضاً قال إن الأمور في هذا العالم ليست بخير ولن تصير كذلك ما دمنا نعذّب الماء ونبذّره ونذبح الأشجار ونرمي بقايانا في العراء... قال لها ذلك مؤنباً وبحنق جبّار كمن خبر مطولاً أقبية العالم بحيث غدا متأكداً من أن امرأة نحيفة الجسد، يدمن زوجها مخدرات رخيصة ويسرق دوليو حناء عرائسها ليشمّه زوالاً تحت سقيفة الجيران وهو ينصّب رجله كميناً لأطفال الحيّ للتسلية وأفكاره لبلاغة الموت الدائخ، هي المسئولة قطعاً عن كل هذا الدمار البئيس الذي يعتري عظام العالم ويسري في عروقه لأنها ترمي حقن البلاستيك وزجاجات الدوليو (3) في الحقل خلف البيت وراء ناقوس فضّي أخضر وفتيّ يدق برأسه أن عليه أن ينقذ هذا العالم.

تختلط حنان الحنّاء بالدوليو على الطاولة نفسها، يزداد غضب زوجها لأن موسم الأعراس قد انقضى بسرعة هذا العام، ولأن حنان لم تعد تغنّي وهو يصلح أنبوب الماء دائم العطب كما قلبه. يأخذ منها حبة حامض ويعصر ماءها في فمه ثم يغلق الباب وفمها بلكمات باردة وهو يبكي بنضارة شمس تكاد تغرب. يقرأ ابنها هذه الجملة من الكتيب المدرسي: "يتسبب الإنسان بتصرفاته اللامسئولة بثقب الأوزون عبر مجموعة من السلوكات النابعة من أنانيته وطيشه بالأساس"... وينظر إليها بتأنيب حار.

تكبر ثقوب كثيرة وصغيرة كما بصمة سبابة في واحة ماء بنهر سيجف لا محالة وهو يعلم ذلك... يكبر ثقب لم تداوه حنان النقاشة بقلبها كان هناك مذ كانت مراهقة ولم تتذخر بعد ما يجعلها تجري عملية جراحية معقدة وباهظة التكاليف. يكبر ثقب أنبوب الماء بالبيت دون أن يصلحه أحد، تكبر قامة الزمن، يكبر ثقب الحزن والامتعاض في قلب طفلها الذي يمضي النهار في تفقد كلام العلماء عن ثقب الأوزون متذمراً من حياة الدوليو والحرمان... ويكبر أيضاً و حلمٌ أفاك وغادِر من الأمل العفيف في قلبه بأن يخفّ عبث الناس وأمه بثقب الأوزون البعيد... يحصل كل هذا في بيت النقاشة، الصغير، بينما ترتدي هي جوارب مخططة بموتيف رسمة الحمار الوحشي، وتلوك علكة بنكهة القرنفل وتحمل كيسها البلاستيكي العامر بعلب الحناء والحقن وهي تهم بالانصراف لحفل خطوبة بعيد... وقد وضعت لابنها صديق الأوزون درهمين فوق جملة كتيبه المفتوح على دفة: "يتسبب الإنسان بتصرفاته اللامسئولة بثقب الأوزون عبر مجموعة من السلوكات النابعة من أنانيته وطيشه بالأساس".

هوامش:

(1): النقّاشة : لقب يطلق على المرأة التي تمتهن تزيين أيادي وأقدام النساء بالحنّاء في المناسبات.

(2): الدوليو : نوع من السوائل، ذو رائحة قوية يساهم في زيادة لون الحناء قوّة على الجسم.

(3): تُستعمل الحقن البلاستيكية الطبية في نقش الحناء.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً