تجري الانتخابات النيابية في الكويت اليوم في ظل مقاطعة اليسار الكويتي بتياريه الرئيسيين «المنبر الديمقراطي» و «التيار التقدمي»، أما أسباب المقاطعة كما وردت في بيان كل منهما والمنشور في عدد من الصحافة الكويتية وعلى موقعيهما فلعل أبرزها: انعدام المناخ السياسي الملائم وغياب الانفراج وانسداد أفق العمل البرلماني لتحقيق الإصلاح، تصاعد وتيرة التذمر الشعبي من أداء أعضاء البرلمان المحلول، وضعف رقابته البرلمانية وعدم تبنيه القضايا المجتمعية وعدم تأثيره على الأداء الحكومي، سن قوانين مُقيدة للحريات العامة، رفض مرسوم الصوت الواحد، عدم الإفراج عن المحكومين في قضايا الرأي والتجمعات.
ومع أن البيانين كلاهما تميز بصراحة نقاطه الانتقادية للمناخ السياسي السائد الذي تجري في ظله الانتخابات، وحرصاً على التأكيد أن المقاطعة ليس موقفاً دائماً ثابتاً (بيان التقدمي)، وأن تحركاتهم المُقبلة ستكون من خلال النضال الجماهيري المُنظّم، ذي الطبيعة السلمية الملتزمة بالدستور (بيان المنبر)، إلا أن ثمة نقاطاً تنطوي على قدر من التناقض والارتباك في كلا البيانين، فإذا كان «التيار التقدمي» قد أكّد في بيانه رفضه الانسياق وراء ثنائية المقاطعين والمشاركين في صفوف المواطنين، ملمّحاً إلى مقاطعة من دون أن تكون مصحوبةً بحملة تحشيدية ضدها، ومستذكراً في ذلك موقفه من انتخابات 2013 حيث كانت حركة الجماهير في صعود، حسب تعبيره، فإن الأشد مدعاة للتعجب ما جاء في بيان «المنبر الديمقراطي»، إذ على رغم موقفه المقاطع، فإنه وضع برنامجاً من خمس نقاط إصلاحية حث المواطنين الراغبين في المشاركة على الاسترشاد بها لانتخاب مرشحين يُحسن الظن بهم وبصدقيتهم!
ويمكن القول إن كلا الموقفين يكاد يكون جوهرهما واحداً ألا هو ترك حرية اتخاذ القرار للناخبين من حيث المقاطعة أو المشاركة، وهذا ما لا ينسجم مع ما هو مفترض أن يتخذه أي حزب أو تيار حركي سياسي في العالم من الانتخابات، فإما المشاركة وتحشيد الجماهير والناخبين من أجلها، وإما المقاطعة وتعبئة الجماهير من أجلها بالطرق السلمية المكفولة. وعلى رغم كل المبررات الموضوعية التي ساقها كلا التيارين، ومن بينها الظروف السياسية المعقدة التي تشهدها الساحة السياسية الكويتية، فإن الغالبية العظمى من الساحات السياسية العربية التي تتمتع ببرلمانات مُنتخبة على تفاوت درجات صلاحياتها، تشهد ظروفاً لعلها أكثر تعقيداً من الساحة الكويتية نفسها ولم يقاطع اليسار فيها الانتخابات، ولعل اليسار البحريني هو النموذج الأقرب لليسار الكويتي والأسبق خبرةً، فقد شاركت كل قواه (بعدما كانت منقسمة في الموقف من انتخابات 1973 وانتخابات 2002) في انتخابات 2006 و2010 في ظل ظروف سياسية أشد تعقيداً من الظروف السياسية الراهنة التي تشهدها الساحة الكويتية والتي يعلل اليسار مقاطعته بها.
ومن الملاحظ أيضاً أن البديل الذي يطرحه كلا التيارين المُقاطعين عن المشاركة، يجتر لغة اليسار العربي التقليدية في المقاطعة منذ ولادته، حيث يجنح إلى الطابع «الشعبوي» المفتقر إلى آليات عملية ذات أفق منظور، كالقول بضرورة التحرك شعبياً وسياسياً ضد تضييق الحريات العامة، والمطالبة بحدوث انفراج سياسي (التيار التقدمي)، وإن المرحلة تتطلب تصدياً كاملاً من كافة القوى الوطنية والديمقراطية للدفاع عن مكتسبات دستور 1962، والعمل والنضال الجماهيري المُنظّم ذي الطبيعة السلمية (المنبر الديمقراطي) في حين إن كلا التيارين عجزا عن حتى إصدار بيان مشترك بمقاطعتهما.
وإذا كانت قوى اليسار العربية المعروفة بعراقتها التاريخية، ما برحت تعاني من انحسار نفوذها الجماهيري، فلعل اليسار الكويتي الحديث الولادة نسبياً هو الأكثر انحساراً في هذا الصدد لأسباب موضوعية ليس هنا موضع تناولها. ومن دون التقليل من قيمة مبررات كلا الفصيلين، فإنه في تقديرنا غلب على موقفهما طغيان النظرة إلى الجزء الفارغ من الكأس على الجزء المملوء:
أولاً: إن الكويت مازالت هي أعرق دول مجلس التعاون، ومن أعرق الدول العربية في التجربة البرلمانية بما تتيحه هذه العراقة من خبرة متراكمة طويلة، ولّدت تقاليد في قبول الرأي والرأي الآخر على الصعيدين الرسمي والشعبي، بغض النظر عما تشهده تلك التقاليد من مد وجزر، ومهما قيل عكس ذلك فإن سعة صدر من يملك تجربة مديدة، بكل انتكاساتها وتقدمها، ليست كمن يملك خبرة قصيرة.
ثانياً: إن ما تتمتع به القيادة السياسية ممثلة في سمو الشيخ جابر الصباح من حنكة فريدة من نوعها لا يصب في صالح شعبها فحسب، كربان لسفينة الكويتيين بمختلف فئاتهم ومكوناتهم وسط ما تشهده المنطقة من أمواج عاتية شديدة التلاطم، بل ولصالح المعارضة، ومن آيات ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما أورده الناشط الحقوقي المعارض المستقل غانم النجار عن لقاءاته بالأمير في سياق نشاطه الحقوقي على رغم ما يُعرف عنه من انتقادات صريحة للنظام.
ثالثاً: إن البرلمان الكويتي المُنتخب مازال يحتفظ إلى حد كبير بمزاياه الأصلية، وأهمها حصر حق التشريع في غرفة واحدة، ومازال دستور الاستقلال باقياً بغض النظر عما تراه المعارضة من مكاسب جرى الإجهاز عليها.
رابعاً: إن المعارضة الكويتية لو توخت في الظروف الدقيقة المعقدة الراهنة التي حدت بها إلى المقاطعة، ما توفره فرص حملاتها الانتخابية من فرص نادرة لا تتكرر لشرح برامجها السياسية والتحامها مع الجماهير مباشرة لتوعيتها بحقوقها السياسية وبممثليها الحقيقيين ومن ثم استمالتها نحو شعاراتها وخطها السياسي، لكان ذلك في حد ذاته كافياً لمشاركتها في الانتخابات.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5194 - الجمعة 25 نوفمبر 2016م الموافق 25 صفر 1438هـ