اثناء الاستعداد في العام 1972 لمرحلة انتخابات المجلس التأسيسي والمكلف بإعداد دستور الدولة، اعلن سيف بن علي - احد قياديي (جبهة التحرير الوطني البحرانية) - عن مقاطعة الانتخابات واصفا التغييرات التي أعلنتها حكومة الاستقلال بأنها مسرحية ولا تعالج جذور الازمة القائمة آنذاك. وفي حين اصر بن علي على نجاح سياسة المقاطعة لانتخابات المجلس التأسيسي، فإنه رجح الايجابية المرحلية للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، وقامت الجبهة بالاعداد للمشاركة مع التيارات الماركسية الاخرى من خلال (كتلة الشعب).
وفي موازاة هذا الموقف فإن (الجبهة الشعبية في البحرين) اتجهت نحو مقاطعة الانتخابات برمتها. وقد كانت الخلفية الاساسية لموقف المقاطعة لدى عموم اليسار الوطني البحريني ترتكز على الذريعة السياسية الامنية، إذ لم تنه الحكومة في ذلك الوقت ملف المعتقلين السياسيين والمبعدين عن البلاد وظلت تعمل بقانون الطوارئ (1956) وقانون الامن العام (1965)، كما ان الدستور المعد وصيغة المجلس الوطني المقرة فيه لا تنسجم مع الاسس الديمقراطية الكاملة، إذ سمح للحكومة بالدخول في تشكيلة المجلس ومنعت المرأة من اكتساب حقوقها السياسية. وفضلا عن ذلك فإن الحكومة اصدرت في سبتمبر/أيلول 1973 القانون رقم (18) الذي يحظر القيام بأي تجمع انتخابي الا بإذن من مركز الشرطة، وهو ما اعتبرته التيارات التنظيمية اداة لقمع مرشحيها.
الإسلاميون الشيعة مشاركة بدائية
ومن المعروف أن الاسلاميين الشيعة دخلوا في العملية الانتخابية آنذاك، ولا توجد وثائق او ادبيات خاصة تشير الى وجود اعتراضات حقيقية معلنة من قبلهم على التحولات الجديدة بعد الاستقلال، خصوصا ان التجربة الحزبية والتشكيلات التنظيمية لما تشهد بعد نموها الحقيقي في الوسط الاسلامي الشيعي، وبالتالي فإن قراءتها السياسية لحدث الانتخابات المعلنة خلت من مخزون التجربة والثقافة السياسية المصحوبة ببرنامج سياسي واضح. كما لم يعبّر هذا الوسط في حينه عن موقف صدامي مع السلطة، وكان هناك اعتراف بشرعية النظام القائم وعدم جدوى الخروج الثوري عليه. إن الحراك السياسي في مناطق التشيع لم يكتسب عنفوانا مبكرا، كما انها تأخرت في استنبات النماذج الوليدة في ايران والعراق خلال الستينات والسبعينات الأولى، ولذلك فإن هذا الوسط لم يكوّن تحفظات سياسية معينة اتجاه السطة باستثناء التحفظ الأمني العام وملاحظاته الخاصة بالوضع الديني، ولذلك فإنه وجد في المشاركة طريقا للإصلاح الديني ولإقرار خططه المتعلقة بالتنظيمات الأخلاقية والتشريع الإسلامي، خصوصا ان التجربة العلمائية الايرانية في اطار الحركة الدستورية كانت تخضع لمتغيرات شبيهة بتلك التي حكمت تجربة العلماء في البحرين.
نهوض التيار الإسلامي الشيعي
ومن المعروف ايضا ان انتصار الثورة الإسلامية في ايران أحدث تحولات كبيرة في خريطة الإسلاميين الشيعة إذ بدأت التشكيلات الحزبية تؤسس بقوة، واتجهت الطبقات العلمائية والمثقفة الشيعية إلى تبني لغة سياسية محددة، وتعلن عن مواقفها من خلال سلسلة من البرامج السياسية المنظمة، كما بدأت تستنهض مساحة عددية واسعة من وجودها الشعبي، وتستعيد حضورها المؤثر في مواقعها التقليدية التي نازعتها عليها التيارات اليسارية والقومية والبعثية. ونتيجة لذلك عاشت هذه الأوساط اختمارات سياسية متعددة، ثقفت رؤيتها السياسية، ومنحتها مزيدا من القدرة على المناورة والصدام السياسي. وكان من الطبيعي ان تبتلى القواعد الشيعية المنظمة بالملاحقة الأمنية والقمع السياسي، وبذلك استطاعت التيارات الإسلامية السياسية ان تحوز على معظم (ميزات وكدمات) التجربة التاريخية لليساريين والقوميين من دون ان تتخلى عن مواقفها السياسية والفكرية.
اليسار القديم
والانقلاب على الذات
وحين نتحوّل الى الحدث المحلي هذه الايام، أي موضوع الانتخابات البرلمانية المقبلة في 24 اكتوبر/تشرين الأول، نجد ان اليسار القديم (المتشدد) يسلك طريقا آخر في مسألة المشاركة، إذ أبدى ورثة (جبهة التحرير الوطني البحرانية) موقف المشاركة في الانتخابات النيابية، كما شاركهم في الموقف نفسه مجموعات يسارية وليبرالية أخرى تنضوي ضمن جمعيات مختلفة. ويمكن ان نفهم ان المشروع الاصلاحي للسلطة - بما أسّس على الأرض من تغييرات - هو الذريعة التي تقف وراء إعلان هذا الموقف، اي ان الملف السياسي والأمني أضحى منهيّا ولا توجد اعتراضات كلية خاصة بهذا الملف مثلما هو الحال في تجربة السبعينات. وبالتالي فإن موازاة الذريعة السياسية بالذريعة الدستورية الحالية، في نظر التيار اليساري والليبرالي المشارك في الانتخابات المقبلة، تُرجّح أولوية الذريعة السياسية وما تتضمنه من ضرورة تجاوز الذريعة الدستورية ولو مرحليا. أما البرنامج السياسي الخاص بالسياسة الخارجية والسيادة الوطنية والتواجد العسكري الأجنبي فإنها نُسفت من مقومات ذريعة اليسار في الفترة الحالية، ولم تعد حاضرة بقوة ضمن ترتيباتها السياسية بخلاف ما كان عليه الوضع سابقا، وقد كان لسقوط الاتحاد السوفياتي وما أحدثه من تبدلات أيديولوجية في حركات اليسار البحرينية الأثر الأكبر في تغيير رؤاها وبرامجها السياسية، فضلا عن تداعيات الهزائم العربية وسقوط الشعارات الكبرى في أكثر من تجربة وممارسة مفضوحة. وسنجد أن قضايا الوجود الاجنبي والعلاقة مع القوى الكبرى ستنتقل الى بنية الخطاب السياسي الشيعي فيما بعد انتصار الثورة الإيرانية، وسيصبح التيار الحركي الشيعي حافلا بكل المكونات الثورية التي تجاوزها اليسار البحريني، كما ان التطورات المتتالية في إيران ولبنان وعموم المنطقة سوف يزيد من فاعلية هذه المكونات على مستوى الثقافة والممارسة السياسية، ما جعل التيار السياسي الشيعي النقيض السياسي الأبرز للسلطة على مدى الأعوام الماضية.
الذريعة السياسية
والذريعة الدستورية
وفي المقابل فإن التيار الإسلامي الشيعي، وبقايا تيار اليسار الجديد والديمقراطيين، مع صف محدود من البعثيين والقوميين؛ يجد أن الذريعة الدستورية هي الأقوى والأولى في تكوين الموقف من موضوع المشاركة في الانتخابات النيابية. وإذا أدركنا المشحون المعنوي في المسألة والمبدئية الثورية المترسّخة في وجدان الحركيين الشيعة، وما أحدثه الخروج على (مايراه البعض) الوعود المعلنة من خدوش جارحة، فإن المصب السياسي الذي تراهن عليه الجماعات المتربصة شرا بالجميع هو ارتكاب المقاطعين للأخطاء التاريخية القديمة. فهناك استدراج خفي تهندسه مجموعة من الخطوات والتنظيرات الموهومة من أجل إيقاع برنامج المقاطعين في التعقيد الأمني، وبالتالي إفشال جهود قادة المقاطعة الساعية الى إمساك الشارع والحيلولة دون تصاعده الجذري في التعبير الاحتجاجي، لا سيما أن هناك خطوات مفتعلة لإيقاظ الصدامات الاجتماعية وإشعال نار التكاره السياسي الحاد بين الناس. وسوف يكون على المراقب ان ينتظر اللحظات المقبلة ليرصد طبيعة حركة برنامج المقاطعة وقدرتها على الافلات من مصيدة التسبّب في تصعيد أمني واجتماعي سوف يُعالج بسوء نية باعتباره خروجا على الاجماع الوطني ويستحق المحاسبة القانونية!
أسئلة المقاطعة والمشاركة
إن جوهر المشكلة يكمن في أرجحية الذريعة السياسية او الذريعة الدستورية. القائلون بانتهاء مظاهر الاضطهاد السياسي وحصول الناس على معظم المكاسب الديمقراطية يرون أن المشاركة في الانتخابات كفيلة باستكمال المشروع وسدّ نواقصه. أما أولئك الذين يحجمون عن تعظيم المعالجات الأمنية والسياسية فإنهم يجعلون من انتفاء الصيغة التعاقدية للدستور الجديد ذريعة أساسية في مقاطعة الانتخابات وتجنّب التصديق على آثاره وتوابعه. والأسئلة المريبة هنا: كيف ستتعاطى الحكومة مع محتمل تصلّب المقاطعين وما سيُحدثه ذلك من اهتزاز إعلامي لصورتها الإصلاحية؟ وهل ستستطيع القواعد الإسلامية ان تستمر في ضغطها على العقول المدبرة لتلزمها باستمرار المقاطعة وعدم الخضوع لحسابات أخرى طارئة؟ وإلى أي مدى سينجح الإسلاميون السنة في برامجهم السياسية الأولى في البحرين اعتمادا على اشتياق مكبوت في مزاولة السياسة والمشاركة في مؤسساتها الدستورية؟ وهل من الممكن أن نشهد انقلابات صاعقة لتيار اليسار والديمقراطيين حينما يدخل البرلمان المقبل ويمارس ذات سياسة الهجوم السابقة بطرح الملفات الساخنة وتجاوز الخطوط الحمراء حكوميا، أي ان يُعاد سيناريو المجلس الوطني المُحل وتشتعل تناقضات النظام والمعارضة من جديد؟
العدد 26 - الثلثاء 01 أكتوبر 2002م الموافق 24 رجب 1423هـ