العدد 26 - الثلثاء 01 أكتوبر 2002م الموافق 24 رجب 1423هـ

نظامان في دولة واحدة: «تركيب طبيعي» للكيان السوداني

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

حين طرحت على صفحات «الحياة» خيار الوحدة الكنفدرالية بين شمال السودان وجنوبه (26 مايو/ آيار 1999) أخطأ كثيرون «دوافع» ذلك الطرح، إذ قيّمه كل منهم من وجهة نظر لم تكن هي الدافع حقيقة.

فالبعض ظنه يأسا من إمكان تحقيق الوحدة بين الشمال والجنوب، طوعا أو بالإكراه، وخصوصا أني تطرقت سردا إلى تجارب الفشل المر في التطبيقات الوحدوية، بداية من تنفيذ بريطانيا قرارات «مؤتمر جوبا» الذي عقدته في 12 يونيو/ حزيران 1947 والذي ألحق الجنوب بالتطور الدستوري للشمال في إطار «دولة واحدة» بعد أن كانت السياسة البريطانية إزاء الجنوب قبل 1947 قد عملت على «إغلاقه» دون الشمال والتخطيط لضمه إلى المستعمرات البريطانية في شرق إفريقيا. فبعد دخول الجنوبيين أو إدخالهم بريطانيا «الجمعية التشريعية» في الشمال، كانت مطالبهم الأولى «تأجيل» الحكم الذاتي للسودان حتى تتكافأ أوضاع الجنوب مع أوضاع الشمال وذلك في جلسة 16 يناير/ كانون الثاني 1950. وكاد ينجح ذلك الاقتراح الذي ساندته بريطانيا لولا فارق صوت واحد فقط.

فمنذ أول يوم دخل فيه الجنوب إطار العلاقة الدستورية في سودان موحّد مع الشمال، كان للجنوب مطلبه المحدد والمميز تحسبا لأي «هيمنة شمالية» هي نتاج ضروري وليس إراديا لفارق التطور الاقتصادي والاجتماعي والحضاري.

لم يتوقف قادة الشمال من دعاة الاستقلال والسودان الموحد عند تلك الظاهرة الاشتراطية في التفكير الجنوبي لدى أولى العلاقات الدستورية الوحدوية. فمارسوا المراوغة على تلك الظاهرة، وكرروا المراوغة حين دعوا الجنوبيين إلى التصويت معهم على استقلال السودان في جلسة البرلمان الانتقالي بتاريخ 19 ديسمبر/ كانون الأول 1955، حين تم تعهد الشماليين للجنوبيين في تلك الجلسة (رقم 43) بإعطاء «الاعتبار الكافي» لمطالب الجنوبيين بحكومة «فيدرالية».

إذا تكررت ظاهرة 1950 في الجمعية التشريعية ثانية في العام 1955 في البرلمان، الجنوبيون يطلبون «التميز الدستوري» والشماليون «يراوغون». وقد شهدت تلك الفترة أول ما يسمونه التمرد العسكري الجنوبي في أغسطس/ آب 1955. لم يتوقف قادة الشمال لدى السؤال الأساسي: لماذا يطالب الجنوبيون من دون غيرهم في «غرب» السودان و«مشرقه» بهذا التميز الدستوري الذي بدأ فيدراليا؟ في حين اكتفى الشرق والغرب بمطالب «التنمية المتوازنة» والإصلاحات «الإدارية».

وحتى لا يتحول هذا المقال إلى «مساق أكاديمي» أدلف مباشرة للإجابة عن السؤال الذي دفعني إلى طرح «الكنفدرالية» بمعزل عن الأسباب التي يعتقدها البعض.

إن الذي دفع الجنوبيين إلى طلب التميز الدستوري بعد العام 1947 ليس هو «هيمنة» الشمال، ولا «الأسلمة» أو «التعريب» القسريين، فقد كان «قانون المناطق المعلقة» الذي مارسه البريطانيون عمليا في الجنوب منذ مشاركتهم مصر في استعمار السودان العام 1898، ثم قننوه بتاريخ 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 يحول دون أي علاقة بين الشمال والجنوب.

الدافع الرئيسي أن الجنوب ليس جزءا ولم يكن جزءا من الكيان التاريخي للسودان القديم، وأعني به تحديد الكيان الذي يشمل شمال السودان ووسطه ما بين النيلين الأبيض والأزرق. ولم يكن حتى من «الأرجاء الممتدة» التي ارتبطت بذلك الكيان الجغرافي ـ التاريخي.

تأسيس السودان

تأسس هذا الكيان السوداني الجغرافي ـ التاريخي على مرحلتين: الأولى بداية من 750 ق.م إلى 590 ق.م وقد عرف بدولة «نبتة» في شمال السودان، وهي «امتداد» للحضارة الفرعونية أو «ناشطة» ضمن معطياتها. والمرحلة الثانية بداية من 590 ق.م وإلى 350 ميلادية في وسط السودان وما بين النيلين، وقد تميزت حضاريا «بخصوصيتها الإفريقية». ثم تفرع هذا الكيان الجغرافي ـ التاريخي في المنطقة ذاتها إلى ثلاث ممالك مسيحية سودانية «المقرة» و«علوة» و«النوبة» وإلى أن تم الاستيعاب العربي الإسلامي للمنطقة ذاتها والممالك ذاتها بأشكال مختلفة منذ العام 1505م، إذ تعمق الارتباط «إسلاميا» وثقافيا بـ «الأرجاء الممتدة» الأخرى في «الشرق» وفي «الغرب»، ولكن ليس الجنوب.

لهذا حين أقدمت الخديوية المصرية على إلحاق الجنوب بهذا الكيان الجغرافي ـ التاريخي للسودان القديم في الفترة ما بين 1862 و1874 بدافع السيطرة على مياه النيل، وألحقت يوغندا كذلك «بحكمدارية السودان» فإنها وضعت الجنوب أمام «مصير جديد» ليس من تركيبته الحضارية ولا تاريخه ولا جغرافيته.

صحيح أن مصر «ألحقت» شرق السودان وغربه في تلك الفترة بحكمدارية السودان، غير أنه كان ثمة تواصل وارتباط وتفاعل حضاري وثقافي وتجاري وديني بين الأرجاء الغربية وتلك الشرقية بالكيان التاريخي الجغرافي القديم، ويمكن للدارسين في تاريخ إثنيات شرق وغرب السودان أن يدركوا ذلك. بل إن الخديوية المصرية ألحقت «أرتيريا» نفسها بحكمدارية السودان وكانت تدار من مدينة «كسلا» الحالية في شرق السودان لولا أن خضعت أرتيريا للاحتلال الإيطالي في العام 1885.

إن الشعوب التي تقبل باستيعاب كيانات «جديدة» ليست من أصل تركيبها التاريخي، جغرافيا وحضاريا، عليها أن تكون بمستوى «التحدي» لمقابلة متطلبات هذا الاستيعاب من ناحية، وأن تكون هناك «محتمات» للقبول بانضمام الكيان الجديد إليها من ناحية أخرى. ولا يتوافر الأمران لشمال السودان أو الكيان الجغرافي التاريخي القديم لشمال السودان. فالعروبة في شمال السودان «ثقافة» وليست «حضارة» لأن التكوين العربي للسودان وممالكه العربية الإسلامية اتخذ طريقه التدريجي منذ مطلع القرن السادس عشر في فترة الانحطاط أو الانحدار العربي الإسلامي بداية من الجلاء عن «الأندلس» وسيطرة «العثمانيين». كما أن إسلامية السودانيين هي «عبادية صوفية» لم تمعن لا في «أصول الفقه» ولا «فروعه» ولا «علم الكلام الفلسفي» وما يملكه السودانيون من «موروث» في هذا المجال لا يتجاوز مخطوطة «طبقات ود ضيف الله» المعنية بأعمال الصوفية.

كما أن شمال السودان لا يملك تلك «البنية» الاقتصادية والتنموية «الاستراتيجية» المكافئة ـ أو الكفيئة بلغة عربية أدق ـ مع التراكم الرأسمالي والتطور التقني الزراعي والصناعي، والمستوى الإداري.

بل إن أقسام السودان الشمالي السكانية والثقافية لم تتدامج بعد لتصل مرحلة الكيان الموحد في ذاتها.

فشمال السودان ـ إذا ـ يفتقر إلى مقومات و«قوة الجذب» التي تمكنه من قبول تحدي استيعاب الجنوب بوصفه كيانا جديدا «مفارقا» له في التركيب. فهناك مناطق عربية مسلمة في شمال السودان «أكثر تهميشا» وفقدانا للتنمية من مناطق في الجنوب.

إذا فالكنفدرالية أو مبدأ النظامين في دولة واحدة ليست مطروحة في الأساس لا لأن هناك مقاومات مسلحة في الجنوب بداية من 1955 ثم 1962 ثم 1965 ثم 1983، ولا لأن هذا الطرح الكنفدرالي ثمرة ضغوط دولية، أميركية كانت أو غيرها، ولا لأن شمال السودان والجنوب قد استنزفا إهلاكا للحرث والنسل ـ وإن كانت هذه موجبات محتمة للكنفدرالية وحتى الانفصال ـ ولكن لأن المفارقة قائمة بين كيانين متميزين منذ البداية، ولأن الشمال لا يملك قدرات «الاستيعاب» الحضاري والموضوعي للجنوب. كما أنه لا يوجد ما «يُحتم» على الشمال ضم الجنوب إليه، لا من الناحية الجيو-بوليتيكية ولا الاستراتيجية، فالضم في الفترة من 62 إلى 1884 قد تم ـ كما أوضحنا ـ ضمن حيويات الجيو-بوليتيك المصري.

وحتى هذه «المحتمات» الجيوبوليتيكية المصرية التي أدت إلى إلحاق جنوب السودان بالكيان الجغرافي التقليدي، يمكن مراعاة دوافعها اليوم، ولكن بأسلوب مغاير لما كان في فترة النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فحتى إذا أخذنا الأمر بالمقياس «الاستعماري» ـ وهو تعبير لا أحب استخدامه في العلاقة السودانية أو الإفريقية مع مصر ـ فإن «رياح التغيير» التي فرضت نفسها في الستينات على مستوى القارة برمتها أوجدت معادلات جديدة في علاقات دول وشعوب هذه القارة خلافا لما كان عليه الأمر لدى التقسيم في مؤتمر برلين العام 1884/ 1885. فمصر تملك من القدرات ومن الوسائل المنهجية المعاصرة ما يُمكّن دبلوماسيتها من «إعادة صوغ» و«ترتيب» علاقاتها بالقادة عموما بل وبدول حوض النيل سواء في أثيوبيا وأرتيريا أو الحوض الاستوائي، إذ بمقدور «الخبرة المصرية» أن تزيد من طاقة التخزين المائي داخل هذه الدول نفسها كمقدمة لرفع حصتها، بل إن «قناة جونقلي» التي سيتم استكمال العمل فيها فور حدوث استقرار في جنوب السودان سترفع رصيد مصر من المياه إلى «2 مليار» متر مكعب إضافي، وكذلك للسودان، في مقابل أن يتمكن الجنوب من تجفيف المستنقعات والشروع في التنمية الزراعية واستقرار قبائله الرعوية، فالجنوبيون يريدون دفع هذه المياه إلى خارج أراضيهم، لا قطعها عن مصر أو السودان. إذ يرتبط المشروع «بالتنمية الذاتية» للجنوب نفسه، وهي قناة يبلغ طولها 360 كيلومترا ويتراوح عرضها ما بين 30 و50 مترا، وسيستزرع الجنوب ـ بعد التجفيف ـ ما يقارب ربع مليون فدان ستصل تباعا إلى مليون ونصف مليون، وفكرة المشروع مصرية منذ العام 1904 ولم يشرع في التنفيذ إلا العام 1974، ولكنها معطلة الآن.

فمصر تملك خيارات عديدة جدا، خبرات وكفاءات وإمكانات «لتقود» التنمية المائية والزراعية على مدى القرن الإفريقي والحزام الاستوائي السواحيلي والسودان، وبما ينعكس عليها إيجابا. فمصر يجب أن تكون هي «الرائدة» في هذه المجالات لا أن تتحسس من أدوار الآخرين التي تملأ الفراغ المصري، وكذلك «الفراغ العربي». فليس في هذه الدول «عملاء» لقوى خارجية وأقصد ما يطلق عليهم «بقادة إفريقيا الجدد» من «أسياس أفورقي» إلى ملس زيناوي إلى يودي موسيفيني، وبالتتابع أرتيريا وأثيوبيا ويوغندا.

إنه ليس من الضروري أن تشارك مصر الآن حتى في مباحثات مشاكوس الجارية، ولا حتى من قبيل «الإظهار المعنوي والسياسي لأهمية الدور المصري» بل من الضروري أن تلقي مصر بخيرة دبلوماسييها في يوغندا وكينيا وتنزانيا وأثيوبيا وأرتيريا والسودان طبعا، على ألا يكون هؤلاء مجرد «ذيل إداري وبروتوكولي» لرئاسة الخارجية المصرية وإنما من ذوي القدرة على المساهمة في صوغ القرار المصري، سودانيا وإفريقيا، وكم كانت بريطانيا سبّاقة، بحكم مستوى تطورها، حين عمدت إلى اختيار كادرها الإداري في مستعمراتها الإفريقية من بين خريجي «الانثروبولوجيا» بالذات لدراسة مركبات القبائل الإفريقية وتوجهاتها، ولا أقول أن تحتذي مصر بالمثال البريطاني التقليدي الذي انتهى دوره، ولكني فقط أنبه إلى نوعية من تُلقى عليه أحمال الدور المصري في القادة، وتملك مصر منهم الكثير.

إن البداية الحقيقية أن نعض نحن بالنواجذ، ومعنا مصر على ما تم في مشاكوس وأن ندفع به باتجاه الصيغة الكنفدرالية كمدخل لتأسيس علاقة وحدوية بين كيانين متميزين، فهذه الصيغة هي السقف الأعلى الذي يمكن الوصول إليه بوصفها بديلا عن الانفصال، والمطلوب أن يكون الاستفتاء على تقرير المصير بين الكنفدرالية والانفصال، وليس بين خياري «وحدة مبهمة» فشلت بعد أن جُربت بعدة صِيغ، منها الحكم الإقليمي الذاتي وفق اتفاق أديس أبابا العام 1972، ومنها نظام الإنقاذ الولائي بعد العام 1989 (حديثي إلى تلفزيون الشارقة 3/8/2002) والراجح في النهاية هو الخيار الكنفدرالي لأنه مؤسس على قناعات الجنوبيين أنفسهم، وهناك الكثير من الوثائق وقرارات ورش العمل الدالة على ذلك والشارحة أيضا للدوافع الموضوعية وليس التكتيكية ومنها «إعلان أداري ADARE) في 8 سبتمبر/ أيلول 1991 بعد ورشة عمل في جمهورية إيرلندا. وما طرحته حركة قرنق نفسها في العام 1993 ثم 1999، وما طرحته فعاليات جنوبية كآبيل آلير الذي يعتبر أحد مهندسي اتفاق أديس أبابا وقد ترأس فيما بعد المجلس التنفيذي الإقليمي للجنوب إلى العام 1978. وكذلك المفكر والدبلوماسي السوداني الجنوبي فرانسيس دينغ، الذي كان له الدور المتميز في صوغ قرارات ورشة العمل التي عُقدت عن السودان في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن في فبراير/ شباط 2001، بل قد تبنت الكنفدرالية ـ حديثا ـ السودانية الشمالية الباحثة في «مركز الدراسات الاستراتيجية» في الخرطوم فايزة حسن طه على صفحات جريدة «الخليج» بتاريخ 24 أغسطس 2002. فكل الطرق الآن تؤدي إلى الكنفدرالية.

أما الوقوف بوجه الكنفدرالية بدعاوى أنها تمزيق لوحدة السودان فمثل القائلين بهذا عليهم الإجابة أولا عماذا يعنون بالسودان؟ وكيف يفهمون تكوينه ومستقبله؟ وعليهم قبل ذلك أن يسألوا أنفسهم وطوال تجاربهم في الحكم الوطني منذ العام 54 إلى 1956 ماذا فعلوا ليكون شمال السودان قادرا على «الاستيعاب الإيجابي» للجنوب خلافا لمنطق عبود العام 1958 بفرض الوحدة عسكريا، وخلافا لما مضى من نهج الإنقاذ؟

العدد 26 - الثلثاء 01 أكتوبر 2002م الموافق 24 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً