أقامت اللجنة الثقافية بأسرة الأدباء والكتاب في الثامنة والنصف من مساء الأربعاء الماضي أمسية بعنوان "تجليات إنسانية في فلسفة جلال الدين الروحية" للأستاذ الباحث أنور عبدالرحمن وإدارة الدكتورة انتصار البناء في مقر الأسرة بالزنج، وبدأ الباحث أنور عبدالرحمن حديثه معرفا الشخصية قائلا: جلال الدين الرومي هو الشاعر والفيلسوف المثير للجدل، ومن الصعب أن يتحدث الإنشان عن شخصية بارزة مثل جلال الدين الرومي، ولا يجلب إلى نفسه عددا من المؤيدين والمعارضين على حد سواء، وذلك لأن شخصية هذا المثقف المشهور مثيرة للجدل، وقد عرفت جلال الدين الرومي منذ صغيري، لأن أبي كان يقرأ له، وكان يقرأ أدبه باللغة الفارسية، أما أنا فبدأت أتقرب إليه بعدما اطلعت على كتابات المستشرق البريطاني رونالد ألن نيكلسون، وربما نيكلسون عرف الرومي أكثر من غيره ممن سبقوه أ الذين أتوا من بعده من المستشرقين والنقاد الغربيين.
ويشير أنور عبدالرحمن إلى أن كتابات نيكلسون الراقية باللغة الإنجليزية تجسد أبعادا فريدة لشخصية مولانا جلال الدين الرومي المولود في بلخ في أفعانستان بتاريخ 30 سبتمبر 1207م والمتوفي في قونية عاصمة السلجوقيين بتاريخ 17 ديسمبر 1273م، وبخاصة حين تمكن من ترجمة بعض أشعاره الفلسفية بإسلوب لغوي بسيط يستطع أن يستوعبه الشباب والكبار، وأضاف مشيرا إلى الترجمة المبدعة من جانب نيكلسون لقصيدة "أنين الناي" الشهيرة لجلال الدين الرومي، فقد كانت ترجمة مبدعة واستطاع فيها نيكلسون أن يرسم بالكلمات مشاعر الحب والألم والفراق والتحول من حالة آلة جامدة إلى آلة ناطقة معبرة ومفعمة بالأحاسيس، ويراها بأنها حالة جديرة بالتأمل، لأن رحلة الناي تبدأ حين يتم قطف أعواد القصب الخاصة به من جذور الغاب، ثم يتم وضعها في الما والملح مدة أربعين يوما آخرى تحت أشعة الشمس ليستوي ويجف تماما، وبعد ذلك تتم عملية خرم قصبة الناي بالنار بطريقة فنية محكمة لتحويله إلى آلة موسيقية ناطقة بالأنغام الشجية عبر النفخ فيه.
وفتح أنور عبدالرحمن نافذة على قصيدة "أنين الناي" وقدم مقاطع منها بإمكانياته اللغوية الهائلة في نطق الشعر بالعربية والإنجليزية والفارسية، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في إبراز النص بروحيته وإنسانيته جماله الأدبي واللغوي وما يرمز إليه الناي بأنها النفس البشرية منبت الغاب يرمز إلى أصل تلك النفس وعالمها الأول وما حنين الناي إلا توظيف جميل لحنين النفس البشرية إلى أصلها:
انصت إلى الناي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته
مذ قطعت من الغاب، والرجال
والنساء لأنيني يبكون
أريد صدرا مزقا مزقا برحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق
فكل من قطع عن أصله
دائما يحن إلى زمان وصله
وهكذا غدوت مطربا في المحافل
أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين
وكل يظن أنني له رفيق
ولكن أيا منهم (السعداء والبائسين)
لم يدرك حقيقة ما أنا فيه
ويلفت الباحث أنور عبدالرحمن النظر خلال حديثه إلى نقطة مهمة ولافتة طالما شغلت تفكيره بحسب وصفه، وهي من الحقائق الأدبية ويطرحها على صيغة سؤال يقول عنه أنه جدير بالبحث والتفكير والدراسة، ألا وهو: لماذا يظهر الغرب تركيزا كبيرا على الشعراء الفرس، ونجد في الوقت ذاته تجاهلا اضحا من جانب الغرب للشعراء العرب؟
ويتابع: فمثلا نجد الشاعر الإنجليزي إدوارد فيتزجيرالد تولى مهمة تقديم الشاعر عمر الخيام إلى الثقافة الغربية والعالمية في القرن الثامن عشر، كذلك قام الفيلسوف الألماني المعروف فريدريك نيتشة بتقديم الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، وأتي المستشرق البريطاني نيكلسون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ليقدم جلال الدين الرومي، هذا مع العلم أنه ليس هناك تقاربا لغويا بين اللغات الأوروبية واللغة الفارسية إلا في أقل القليل، ومع ذلك نرى أن العرب، وهم البارعون في الشعر، حتى قيل أن الشعر هو (ديوان العرب) ولديهم كثير من فطاحل الشعراء، سواء في العصر الجاهلي أو بعد ذلك، وصولا إلى القرن العشرين، فإن الملاحظ عدم اهتمام المستشرقين والنقاد الغربيين بالشعراء العرب، ومنهم شعراء أفذاذ، مثل المتنبي وأبي العلاء المعري وأحمد شوقي وغيرهم وذلك مقارنة بشعراء فارسيين يعدّون على أصابع اليد الواحدة.
ويغوص الباحث أنور بشكل أعمق في تحليل شخصية مولانا جلال الدين الرومي قائلا: فبعيدا عن النزعة الصوفية المعروفة لدى جلال الدين الرومي فإنه يقول: إن العقل هو عرش الإنسان، وكما نعلم فإن منطق العقل يعتمد على السبب والمسبب، ولذلك يتساءل الرومي: لماذا يتحلى الإنسان بالعقل ولا يملك الحيوان تلك الملكة؟ .. وهنا يرى أنه بالإضافة إلى العقل فإن الإنسان حظي بشيء آخر أعطاه أهمية كبرى، وهو ما يسمى "النفس" تركيبة كيميائية غير منظورة، مع العلم أن الروح هي عنصر البقاء، لكن التكريم والتوبيخ انص على النفس، وبعد كل هذا، هل نزعم أننا بتنا نعرف الرمي، هل نستطيع القول إننا عرفنا، كلا ألف كلا، لأن الرومي نفسه يقول "أنا لا أعرف نفسي.
ويقدم الباحث رؤيته حل الرؤية الإيمانية لدى جلال الدين الرومي العالم والفية الإسلامي والشاعر الصوفي الكبير والعارف بالله، فأول ما يلفت نظر الباحث المكانة الرفيعة التي بلغها والتي اعترف بها العلماء والمستشرقون الغربيون على نح لافت للنظر، ويستشهد الباحث بمقولات بعض المستشرقين الغربيين البارزين من أجل إدراك الأهمية الفائقة التي يحظى بها الشاعر والفقيه والعالم جلال الدين الرومي حيث يتحدث الشاعر والمستشرق الألماني الشهير فريدرك روكرت عن الرومي قائلا: "أين ذلك النجم الي هبط على الأرض والذي وصل نوره إليّ، أين مولانا جلال الدين الرومي، أعظم العارفين وأقدس المقدسين في كل الأمم، في حين تحدث عن المستشرق الإنجليزي آرثر جون اربري قائلا: "سانفق ما تبقى من عمري في دراسة أعمال جلال الدين الرومي الذي نجح في أن ينقذ أهل بلاده قبل سبعة قرون من فساد كبير وعذاب عظيم، أما أوروبا المنقسمة على نفسها فلن تنقذها غير أعمال جلال الدين الرومي.
وفيما يتعلق بلقب الرومي أوضح الباحث الأستاذ أنور عبدالرحمن أن لقب الرومي التصق بجلال الدين بعد إقامته في تلك البقعة التي كانت تخضع لحكم بلاد الروم قبل دخول الإسلام إليها، وقد ورد في بعض أبيات شعر الرمي ذكر لجالينوس وأفلاطون، وهما من قلاسفة الإغريق واليونان، غير أن الملاحظ أن مسألة تأثير الفلسفة الإغريقية والثقافة اليونانية على الرومي لم تحظ باهتمام الباحثين العرب بشكل واضح،وترى دراسة عربية صادرة حديثا بعنوان "جلال الدين الرومي بين الشرق الغرب" أن الرومي حول الشعر من موضوع للمدح والثناء والهجاء والتغني إلى قالب صب فيه الرمزو والإشارات وفصل فيه المجمل من الكلمات، ورتل فيه الآيات، واستعاد آلاف الحكم والأحاديث، وما خلا نبض الحياة من كل كلمة مما قال، وقد وصفه أحد الأعاجم بأنه أعظم من شكسبير، لكن يمكن القول أنه إنسان صوفي متدين سجل في آلاف الأبيات من الشعر ما استعصى على غيره أن يسجله بهذا الشكل، إن الرومي سماء واسعة، لذلك لا يمكن لم يستظل بالسماء لحظات قصارا أن يستوعب كل ما تحويه السماء كما يقول أحد الكتاب.
ويواصل قائلا: وترى المستشرقة المتخصصة في دراسة الأديان إيفا دي فيتري ميروفيتش أن كل أعمال الرومي تحمل بصمة الكونية والتسامج، بما أن الله هو الحقيقة الوحيدة، وهو الهدف الوحيد للصوفي في طريق بحثه المتواصل، فالطريق المؤدي إليه لا يكتسب أهمية، يقول الرومي: "هناك طرق كثيرة للبحث، لكن موضوع البحث يبقى واحدا"، غير أن شخصية بثراء جلال الدين الرومي وتجربته الفكرية والدينية والصوفية أثارت في الفكر العربي والإسلامي جدلا كبيرا، فبعظهم نظر إليه وخاصة في ضوء تراث الحركة الصوفية المعروفة بالمولوية التي نسبت إليه، ولكنها في الواقع تأسست بعد رحيله، أنه قد أتي بأفعال تخرج عن الملة، في حين كان الرومي ذاته يؤكد في كل مراحل حياته أنه خادم أمين لتطبيق الشريعة الإسلامية.
ويضيف الباحث الاستاذ أنور عبدالرحمن قائلا: وهذا يدعونا إلى إلقاء الضوء على مدرسة ورؤية جلال الدين الإيمانية لنستجلي من قرب أفكار وقيم هذه الشخصية التاريخية ذات التأثير الفكري الممتد إلى يومنا هذا، فلم يكن جلال الدين الرومي شاعرا كسائر الشعراء أو صوفيا كسائر المتصوفة، ولكنه عالم حنفي فقيه، وما تصوفه إلا الصورة الواعية لما كان عليه من علم وفقه، فحتى استغراقه في التصوف في أواخر عمره لم ينسه أبدا ثقافته الدينية الشرعية التي نشأ عليها، فمدرسة الرومي الصوفية لا تجد أي تعارض بين الصوفية وعلوم الدين، فالصوفية بمعنى "صفاء النفس" تعني التذوق العميق للإسلام والعمل خالصا لوجه الله وفي سبيل العمل بما أمر به، والعلماء الذين صفت قلوبهم وعملوا في دنياهم يبتغون مرضاة الله هم من اتبعوا تصوفا على طريقة جلال الدين الرومي.
ويختتم الباحث أمسيته القيمة بتأملات في حياة الرومي وفكره وتأثيره مؤكدا على أن جلال الرومي يعد من أكثر الشعراء والكتاب الذين اختلفت حولهم الآراء، ويتعبر في نفس الوقت من أكثر الذين اتفقت حولهم الآراء، كما يبين بأن الآراء والمواقف اختلفت وتباينت إلى أقصى حد حول أمرين يتعلقان بحياة وفكر الرومي، ألأول: من هو جلال الدين الرومي، والثاني: كيفية تقييم فكره وأراءه التي عبر عنها في أشعاره وكتاباته؟، وفيما يتعلق بالأمر الأول أن كثير ممن تناولوا حياة وفكر وأشعار الرومي بالتحليل والنقد تباينت رؤاهم حول هويته الجوهرية التي يجب النظر إليها باعتبارها مدخلا لفهمه وفهم إسهاماته، هل هو عالم دين، مفكر وفيلسوف أو مجرد شاعر مبدع وصوفي صاحب مدرسة صوفية.
وأثرى الحوار في هذا الجانب وصولا إلى تقييم فكره من خلال منهجه ومبدأ حياته وأفكاره واستشهد بالكثير من أقواله ومنها "ما التدبير، وأنا نفسي لا أعرف نفسي، فلا أنا مسيحي، ولا أنا يهودي، ولا أنا مجوسي، ولا أنا مسلم ولا أنا شرقي لا أنا غربي ولا أنا بري ولا أنا بحري، لا أنا من التراب ولا أنا من الهواء ولا أنا من النار، ولا أنا من الهند ولا أنا من الصين ولا أنا من البلغار ولا أنا من أهل الجنة أو النارن وإنما مكاني حيث لا مكان، وبرهاني حيث لا برهان، فلا هو الجسد ولا هو الروح، لأنني في الحقيقة من روح الروح الحبيب، ومثال قوله أيضا: "مسلم أنا، لكني نصراني، وبرهمي وزرادشتي. توكلت عليك أيها الحق الأعلى، فلا تنأ عني، ليس لي سوى معين واحد، ومسجد أو كنيسة أو بيت أصنام، ووجهك الكريم غاية نعمتي، فلا تنأ عني، وهذه الأشعار والكتابات هي بالنسبة إلى كثيرين لا تعني أبدا أنه لم يكن مسلما تقيا كما يبدو من ظاهر الكلام، ولكن يمكن فهمها على اعتبار أنها من نوع التجليات الصوفية، يراد منها تأكيد قيم احترام كل الأديان والتسامح الذي يجب أن ستحلى به البشر.