ضمن منشورات مشروع نقل المعارف في هيئة البحرين للثقافة و الآثار اصدرت الهيئة كتاب كتاب تَفَكَّرْ الذي يحكي قصة سقراط الذي لم يتفاخر بمعرفته بل بمحدوديتها كما جاء في حيثيات الكتاب.
ويتناول الكتاب مفاهيم المعرفة، العقل، الحقيقة، الفكر، الحرية، المصير، الهوية، الخير، العدل وهي دوائر تفكر، يمكنها أن تختصر فهم الطبيعة التي يتشكل من خلالها العالم، ومسارات اشتغال فكري يقترحها الفيلسوف والأكاديمي البريطاني سايمون بلاكبرن في كتابه تَفَكَّرْ مدخل أخّاذ إلى الفلسفة ، الصادر عن هيئة البحرين للثقافة و الآثار، ضمن مشروعها نقل المعارف الذي طلقته مؤخراً وجعلت من الترجمة أحد أنشطته.
ويتحدث سايمون عن محاولته طرح سبيل التفكير فيما يصفه بالمسائل الكبرى، وعرض سلسلة من مقولات اعدد من المفكرين في خصوصها، كي يتسنى للقارئ فهم واستيعاب هذا الكتاب. إذ تحمل مفردة الفلسفة دلالات غير مناسبة في وجهة نظره، كما إنها غير عمليه، و لا تهم عالمنا، وغريبة أيضاً.
كما انه يستشعر لحظة الحرج التي يمكنها أن تمر بالفلاسفة وطلابهم عندما يوجه لهم سؤال، عن جدوى وفاعلية ما يقومون به، مفضلاً وبصفة شخصية أن يقدم نفسه بأنه من بين ممارسي هندسة المفاهيم بدل الفيلسوف. ليضيف بأن المهندس يعمد في اشتغالاته إلى دراسة بنية الأشياء المادية، وكذلك الحال بالنسبة للفيلسوف فإنه يدرس بنية الفكر.
ويتضمن فهم البنية بحسب سايمون، الدراية بالكيفية التي تعمل بها الأجزاء وترتبط فيها، أي معرفة ما سوف يحدث في مختلف الظروف حال إجراء تغييرات بعينها، هذا ما نسعى إلى القيام به حين نتقصى البنى التي تشكل رويتنا للعالم، لينتقل بعدها لصياغة جملة من الأسئلة المتشظية التي طوقها سايمون بسؤال فيم سنتفكر؟ لترتكز في مسار سؤال الذات، من أنا ؟ ما الوعي؟هل يمكننا البقاء بعد فناء الجسد ؟ هل في وسعنا أن نتيقن من أن خبرات الآخرين و أحاسيسهم تشبه خبرتنا و آحاسيسنا ؟ . إلى ما لا نهاية من تلك الأسئلة .
الغريب، يقول : سايمون، في أنها لا تبدو من الوهلة الأولى مربكة فحسب، بل تتحدى عمليات الحل البسيطة، مستدركاً ذلك، بالقول : إذا سألني شخص متى يبلغ المد و الجزر أوجهما، أعرف كيف ابدأ في الإجابة، إذ ثمة جداول دقيقة للمد و الجزر في وسعي الرجوع إليها، وقد أعرف على وجه التقريب كيفية إعدادها.
وحتى إذا فشلت في ذلك - يقول سايمون - فإنني أستطيع أن أقيس مد البحر وجره بنفسي، فذلك كله مرهون بالخبرة، كما إن تلك الأسئلة يمكن حسمها عبر إجراءات متفق عليها، تتضمن البحث و النظر، والقيام بقياسات، وتطبيق قواعد سبق اختبارها بالخبرة.
ذلك، بعكس الأسئلة الآخرة، التي تستوجب التفكر، لإننا و باختصار لا نعرف إين نبحث، بل قد نشعر أننا لا نعرف تماماً ما نعنيه رغم أننا من صاغها وطرحها.
إذاً، ما الذي يثير مثل هذه الأسئلة المحيرة ؟ - يسأل سايمون - ويجيب بكلمة واحدة، إنه التأمل الذاتي، فلدى الكائنات البشرية قدرة لا تكل على التأمل في ذاتها. فقد يقومون بشيء بسبب العادة، لكنهم يستطيعون وبكل بساطة الشروع في التأمل في هذه العادة.
أي أن البشر يستطيعون بشكل اعتيادي التفكير في الأشياء ثم تذبر ما يفكرون فيه، لكن كيف يتسنى لنا أكتساب مهارات التفكر ؟ إذا يمكن القيام بهذه العملية بطريقة جيدة و رديئة في آن، وبشكل بارع أو خارق.
التفكر، هنا لا يمكن اختزال فاعليته من خلال اكتساب مجموعة من المعارف - كما يرى سايمون - بل هو أشبه بعزف البيانو بطريقة بارعة، إنها معرفة الكيفية إذن، لا معرفة المعلومات .
وفي هذا السياق، يستحضر سايمون الفيلسوف سقراط في محاوراته لأفلاطون، ذاهباً بالقول : إن سقراط لم يتفاخر بمقدار معرفته، بل كان يتباهى بأنه الوحيد الذي كان يعرف محدودية معارفه، وفي هذا شيء من حكمة التفكر في ضعف مزاعم الآخرين بالمعرفة.
بعدها يخوض - سايمون- بحثه في مفهوم المقصد، و التشكيك في مضامينه و فاعلية التأمل في سياقات تشكل الأشياء من حولنا، بمنطق مفاده بأن الفلسفة ليست حكرا على مدعي التخصص، وإن التفكر في الإشكالات الكبرى، مثل المعرفة، العقل، الحقيقة، الفكر، الحرية، المصير، الهوية، الخير، العدل ممكنه للجميع، لكن ذلك يستوجب إجادة السبل الفلسفية التي لا تفقد المفهوم ذلك العمق والدقة في مقاربة المعنى.
بدأ سايمون، بعدها في تفصيل كتابه في فصول ثمانية، كانت المعرفة أول فصوله، حيث عمد إلى مقاربة الاشتغال الذي قام به الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، ساعة اعتزاله العالم بحثاً عن المعرفة، من خلال تقويض المسلمات، واعتماد مشارط الشك، في المفاهيم التي كانت محط تسليم و خلخلة، حتى قبل ديكارت.
كموضوعات النفس، وفنائها، ومعرفتها، وطبيعة العالم، الواقع و ارتدادات الوهم التي أثيرت في نصوص فلسفية قديمة، كنصوص "الفيدا" الهندية التي ترجع إلى العام 1500 ق.م.
لينتقل بعدها سايمون، في الفصل الثاني للحديث عن مسألة الفكر ، ليتبعها في الفصل الثالث بالحديث عن حرية الاختبار ، و الأنا في الفصل الرابع، و الله في الفصل الخامس، الاستدلال في الفصل السادس، و العالم في الفصل السابع، ليختتم بحثه في الفصل الثامن بالحديث عن ما ينبغي فعله .