كان السباك الشاب الوسيم يدندن بأغنية شبابية، بلحن بهيج وهو ينهمك في إصلاح خلل في حنفية المطبخ، في شقة كنا نقيم فيها في بيروت في إجازة قصيرة. سألني الشاب وهو في طريقه للخروج عن سبب مجيئنا إلى بيروت وما يمكن عمله فيها؟ فأخبرته أننا نستعد لحضور حفل لفيروز في ذلك المساء، فأخبرني أنه ذاهب إلى ذات الحفل، وأنه مقيم في شقة قريبة في الحي الذي نسكن فيه.
في مساء ذلك اليوم التقيت الشاب نفسه، يصحب معه زوجته، وهما في طريقهما للذهاب إلى الحفل، وكانا في كامل أناقتهما بما يليق بالسهرة في حضرة أيقونة الغناء العربي. هو ببدلته السوداء وربطة العنق من إحدى الماركات الشهيرة، وزوجته في فستان السهرة الجميل.
مثل هذا الشاب يوجد كثيرون في الكثير من مجتمعات الدول العربية ودول العالم، يعتبرون كل مهارة لديهم وسيلة للعمل وكسب المعيشة دون الانتقاص من مكانتهم الإنسانية والاجتماعية. ولا تدمغهم مجتمعاتهم بانتماء لفئة أقل لكونهم يقومون بأعمال حرفية ومهنية. فالحاجة لهم تشبه الحاجة إلى أي موظف آخر في أي مؤسسة حكومية أو شركة.
هذه الفئة هي واحدة من ثلاث فئات تشكل سوق العمل. فهناك أيضاً فئة الأعمال الإدارية العليا في الدخل والمسئولية في القطاعين العام والخاص، وما بينهما الفئة المتوسطة التي تتكون من الإدارات المتوسطة والمسئولين في الوظائف وكذلك أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة.
ما دفعني للكتابة عن الشاب اللبناني هو العزوف الشديد من قبل شبابنا من الجنسين عن القيام ببعض الأعمال اليدوية خصوصاً، واعتبار العاملين فيها أقل شأناً مما جعلها مع الوقت مقصورة على العمالة الأجنبية، ذلك على رغم أن هذه الفئة تعتبر خياراً جيداً للمبتدئين وأصحاب المهارات الإبداعية القابلة للتميّز والنمو إن واكبتها ثقة ذاتية وتقدير مجتمعي محيط بها.
الصورة النمطية عن هذه الفئة من الأعمال وشاغليها، تشكلت منذ أن تفجّرت «الثروة السوداء» في منطقة الخليج خصوصاً وارتفع دخل الدول والأفراد في طفرة غيّرت حياة وسلوك ونظرة أصحابها لأمور كثيرة وتشكلت مفاهيم جديدة وظواهر خاصة بهم. ووُلد اعتقاد بأن هناك من يجب أن يوفر الرعاية «التوظيفية» لكل من يصبح في سن الكسب والعمل خصوصاً في الأعمال الإدارية والمكتبية التي يعتبر شاغلوها من ذوي الياقات البيضاء. وربما كان ذلك مقبولاً في ذلك الوقت بسبب تفوق الدخل المتأتي من هذه الوظائف وأيضاً لوجود فرص العمل الكثيرة للبناء والاستفادة من الثروة المفاجئة للحاق بركب العالم المتقدم.
لكن بعد مرور أكثر من ثمانية عقود، لابد من إعادة النظر في مفاهيم وقيم العمل، وهذا ما يبدو أن أصحاب القرار في سوق العمل قد فطنوا اليه بإنشاء «تمكين» ومن قبله بسنوات «بنك التنمية» مما فتح أفقاً جديدة تتناسب ليس فقط مع انفتاح الحدود على الآخرين وإنما مع اتساع هذا الأفق أمام الإبداع والمبدعين مما يجعل الوظائف التقليدية قفصاً يقيد صاحبها.
وإن كانت الثقة والتقدير المجتمعي يقفان عائقاً أمام الكثير من الأعمال «الصغيرة» التي ليس بالضرورة أن تبقى صغيرة إن توفّر لها هذان العاملان، فإن الظاهرة الغريبة التي لا تتسق مع العقود الثمانية التي أعقبت الطفرة التنموية التي شملت كافة المجالات والتي أدارها البحرينيون بجدارة كبيرة ابتداءً من أفواج المبتعثين الأوائل إلى الجامعات العريقة والذين عادوا ليديروا عجلة التنمية في سرعتها القصوى محققين للبحرين، الصغيرة في مساحتها وعدد سكانها، اسماً عالياً لاتزال تقتات على أمجاده، هي أننا مازلنا نرى أجانب على رؤوس مؤسساتنا الكبرى على رغم وجود الأجيال المتعاقبة على إدارة هذه الطفرة والاستثمارات الكبيرة، التي أنفقت على التعليم داخل وخارج البحرين، على المتميزين من أبناء الوطن. الأعمال، حتى الصغيرة منها تحتاج لخبرة خاصة ومتخصصة في مجالها وببيئتها والمستفيدين منها فكيف بالكبيرة منها.
كثيرون اختاروا تهجير خبرتهم، وهاجروا بها، إلى أعمال ومجتمعات وجدوا فيها تقديراً وبيئة خصبة لإبداعهم، وخلل ذلك ليس في حرمان هؤلاء من العيش في أوطانهم وخدمتها فحسب وإنما أيضاً يحرم البلد من خبرة وعلم هؤلاء، وسيؤدي إلى انقطاع في تناقل الخبرات بين الأجيال. ويجعل الفجوة تتسع بينها. فيتقاعد الكبار ويضطر الصغار لاختراع العجلة من جديد أو يتركون «الجمل بما حمل» إلى آفاق أرحب.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5191 - الثلثاء 22 نوفمبر 2016م الموافق 22 صفر 1438هـ
صح لسانج يا ام خالد ... المقال ابداع والكلمات منتقاه بعنايه وفي الصميم..good luck
موضوع مهم وجدير بالتحليل: استاذة ، المشكلة في نظرة المجتمع لهذه المهن، هل سيقبل تاجر او ذو منصب و وجاهة من تزويج ابنته لسبّاك او ميكانيط، ناهيك عن قبول الفتاة بالأساس من مهني! رغم انني اعرف ان بعض الحرفيين يتحصّل على موارد اكثر من صاحب المكتب والقلم.
شكراً لطرح الموضوع ..
تحديدا ماذكرتيه استاذة عزوف فئة كبيرة من الشباب من الجنسين عن هذه الأعمال خصوصا بعد الطفرة هو بسبب نمو الدخل الفردي لكل الفئات المجتمعية ولد اجيال لا تمتهن هذه المهن وقد لا تمتهن اي شيء ويرجع ذلك كله للاسلوب الاتكالي الذي يتعبونه الملقى على سواعد الأجانب في ابسط الامور حتى.