يبدو العنوان ملتبساً. أقول يبدو؛ فقد يُفهم منه أنه لم يرَ طريقه إلى النشر أيضاً. الالتباس في أنه يشكِّل ما يشبه الصدمة؛ وخصوصاً أن المعنيَّ بالأمر الشاعر العربي السوري أدونيس. كان ذلك في العام 1990؛ أي قبل 26 عاماً، يوم أن اقترح الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، على أدونيس، وكانا في باريس، أن تُجري مجلة «الكرمل» مقابلة معه «ضمن سلسلة من المقابلات مع الشعراء العرب»، وكان طرابلسي في عِداد أسرة تحرير المجلة. قصة الحوار الذي لم يتم يقدِّمها فواز طرابلسي، في العدد الثالث عشر من مجلة «بدايات» لشتاء العام 2016. ما تم نشره هو الأسئلة التي توجه بها طرابلسي لأدونيس. زبدة القصة أن طرابلسي أوضح لدرويش أن المقابلة فاشلة ولا يجب أن تُنشر لأنها لا تليق بأدونيس. القصة مليئة بالتفاصيل، سنورد جوانب مهمة منها؛ علاوة على نشر أهم الأسئلة التي أجاب عنها درويش وقبل النشر طلب استعادة النسخة الورقية، كونها لم تكن مباشرة، حالت بين ذلك ظروف.
وبحسب تقديمه للقصة، يكتب طرابلسي «سأل محمود أدونيس إذا كان يُفضِّل أحداً يُجري المقابلة، فاختارني أنا». يشير طرابلسي بأنه تردَّد بداية الأمر، باعتباره ليس شاعراً، كما أنه ليس ناقداً أدبياً «بأي معنى احترافي». ما استشفَّه طرابلسي أن المقابلة ستكون ذات نكهة صدامية، أو لنقل سجالية بحسب تعبيره، وتلك السجالية ستمنحها غنى من حيث المواضيع المتعددة التي يمكن التوغل إليها وتناولها. وسبب اختيار طرابلسي «سجالية»، كما يوضح هو في تقديمه للأسئلة التي وُجِّهت إلى أدونيس، هو أن الأخير كان يدعو دائماً «صديقي اللدود، لكثرة ما بيننا من خلافات عقيدية وسياسية وأدبية»، إلا أنه من حيث المبدأ، وافق طرابلسي على المضيِّ قدماً في إجراء المقابلة.
من جهته وافق أدونيس واتفقا أن تكون المقابلة مباشرة «نضع مسجِّلة بيننا ثم ننطلق». تمت الموافقة على ذلك، مع التفاتة من أدونيس أنها ستكون بمناسبة عيد ميلاده الستين، مشيراً إلى طرابلسي بالقول «وأختم بعدها إعطاء مقابلات صحافية».
لماذا ظلمني صديقي؟
يبدو الأمر طبيعياً كأي اتفاق، ينقص أو يزيد في التفاصيل، لكنه يظل في نهاية المطاف اتفاقاً.
بعد تفاصيل تسبق تسليم طرابلسي الأسئلة لأدونيس، تتعلق بالقيام بمسح قرأ فيه المقابلات التي أجريت معه، والدراسات التي كتبت حول مشروعه النقدي والشعري في الصحف، وتحضير عشرات الأسئلة (سنورد أهم تلك الأسئلة في ثنايا الكتابة)، ستضاف إليها أسئلة لابد وأن تطلع في أثناء المقابلة، وهي الأسئلة التي تبدو ثانوية ولكنها قد تلتقط أفكاراً جديدة، وتفتح أفقاً لأن تأخذ تلك المساجلة مدى أوسع وأشمل، يشير طرابلسي إلى أنه سلَّم قائمة الأسئلة إلى أدونيس «ولمَّا قرأها هاتفني قائلاً، إنه يُفضِّل الإجابة خطيِّاً». مرَّت أيام ليقوم أدونيس باستدعاء طرابلسي، وسلَّمه إجاباته المكتوبة. بعدها يضعنا طرابلسي في وضع ملتبس آخر، بإشارته إلى أنه ليس متأكداً «ما إذا سلَّمني إياها أو تركها عند سكرتيرة في المكتب». ما يريده طرابلسي هو القول بأن المقابلة الشفوية لم تتمّ.
تبدو جوانب من الشهادة تلك غير متناسقة أحياناً في ترتيبها، وتبعث على الإرباك في جوانب أخرى. ما حدث هو أن طرابلسي قرأ الإجوبة، لكنه فوجئ - كما يقول - بالتسرع والسلبية في الأجوبة «وقد اختتم المقابلة بنص يتساءل فيه: لماذا صديقي ظلمني/ وهاجمني، وفيها تحسُّر ولوْم على الصديق الذي هو أنا». يُرجع طرابلسي ذلك التسرُّع والسلبية من جانب أدونيس إلى أن الأسئلة بدت له سلبية بل مستفزة، وأن المقابلة لم تكن ناجحة. ويضيف طرابلسي «سلَّمت المخطوطة، وكانت بخط اليد لمحمود، مع الملاحظة أني أعتبر المقابلة فاشلة ولا تليق بأدونيس. وتركت له حرية القرار بالنسبة إلى النشر».
وهنا يبدأ تكشُّف سر الحوار الذي لم يتم. يوضح طرابلسي بأنه في اليوم التالي هاتَفه محمود ليبلغه أن أدونيس اتصل به طالباً استرداد المقابلة والامتناع عن نشرها. وأردف محمود: آمل أن تكون لديك نسخة من المقابلة للذكرى». إلا أن طرابلسي لم يخطر في باله نسخ المقابلة، وبهذا ضاعت أجوبة أدونيس «على تلك المقابلة التي لم تتم. ما بقي منها الأسئلة».
ما يهدف إليه طرابلسي بنشر أسئلة المقابلة تلك، هو «تجديد العرْض على أدونيس لكي يجيب عنها، مع الاستعداد لنشر أجوبته، دون أدنى تدخل على صفحات المجلة»، والمجلة التي يعنيها هنا طرابلسي «بدايات» التي يرأس تحريرها.
أدونيس واللاتاريخية في النظر إلى التراث
الأسئلة التي طرحها طرابلسي عميقة وإشكالية، إذا استثنينا الأسئلة التي ترتبط بتجربة أدونيس الشعرية، وظروف إقامته في لبنان، وتحصُّله على الجنسية. من بين الأسئلة الإشكالية، اللاتاريخية في نظرة أدونيس إلى التراث، وهنالك ما يعتبره طرابلسي ترديد أدونيس بأن أيديولوجيته الوحيدة هو أنه هدَّام الأيديولوجيات. كما يقدم اقتراح محمد أركون بالعودة إلى ما يسميه النص الأول (القرآن)، وتحريره من النص الثاني (نص السلْطة، وتمييزه بين السياسي عن الثقافي، وموضوعات وقضايا أخرى، يتطلَّب الوقوف عندها - بالضرورة - الوقوف على طبيعة تلك الأسئلة والمسارات التي كانت تتوخَّاها باستحضار أو استدراج مراجعات، بعضها أدلى به أدونيس، من دون أن تكون هنالك مواجهة مباشرة مع المتلقين المعنيين، كان يمكن للقاء الذي لم يتم أن يستعيدها بمنهجية وتعميق أكبر.
الملاحظ أن كثيراً من الأسئلة التي كان من المفترض الإجابة عليها مازالت محتفظة بعمقها وإشكاليتها، ولم يحسم أدونيس نفسه الكثير منها، وخصوصاً ما يتعلَّق باللاتاريخية في نظرة أدونيس إلى التراث، وكذلك تمسُّكه بأيديولوجيته الوحيدة التي تتحدَّد في كثير من فضاء تحركها في أنه هدَّام للأيديولوجيات. الأمر يبدو أكثر التباساً اليوم بعد 26 عاماً على المقابلة التي لم تتم.
«الثابت والمتحوِّل»
فيما يتعلق باللاتاريخية جاء السؤال على هذا النحو: يأخذ عليك بعض النقّاد اللاتاريخية في نظرتك إلى التراث. تقول في «الثابت والمتحول»، إنك تُعالج الإسلام بما هو بنية فوقية. هل هذا يُشكِّل عذراً لعدم إدخال المُحدّدات الاقتصادية - الاجتماعية في التحليل؟ أم أن في الأمر خياراً فلسفياً، نظرياً، ومنهجياً هو هيغليّتك (أي الانحياز إلى فلسفية الفيلسوف الألماني هيغل) التي يتحدث عنها الأب نويّا في مقدمة الكتاب؟
في نظرتك إلى التاريخ العربي - الإسلامي تنحت مفهومين: الثابت والمتحوِّل. هما مفهومان يتحولان إلى جوهرين: لا الأول «يتحوَّل)، ولا الثاني «يثبت»، ولا هما يتبادلان الأدوار. ويرتبط هذان الجوهران عندك بأصلين: معاوية «السلطة»/ علي «المعارضة». لم تكن السلطة دوماً مركز المحافظة و «الثبات». فهل بناء الدولة العربية مهمة تقليدية تُجافي منحى التقدم؟ ومن جهة ثانية، لم تكن تيارات «التحوُّل» بالصفاء الذي تريده. وليست كل معارضة حاملة لمشروع بناء مجتمع جديد كي تكون حاملة مشروع ارتداد عن الجديد. أجدك تنظر إلى تيارات «التحوُّل» نظرة انتقائية تُسقط فيها الحاضر على الماضي: الإمامة، عدا أرستقراطيتها، تنطوي على فكرة احتكار الفرد للمعرفة. عن جدلية وإنسانية وثورية الصوفية، نعم. لكن الصوفية تنطوي أيضاً على فكرة المشيخة الأبوية. أما عن النزعة الإنسانية الأممية في القرمطية، فهي إسقاط لمفاهيم معاصرة على الماضي.
النص الأول... النص الثاني
يستعيد طرابلسي لقاء بين أدونيس ومحمد أركون في مجلة «مواقف». ضمن هذا الإطار جاء السؤال بهذه الصيغة: في لقاء بينك وبين أركون في مجلة «مواقف» يقترح أركون العودة إلى ما يسمِّيه «النص الأول» (القرآن)، وتحريره من «النص الثاني» الذي يرى أنه غدا حجاباً وحاجزاً ثقيلاً جداً يبعد عن النص الأول الذي لا يزال حيّاً وخلَّاقاً. تتفقان على أن النص الثاني إنما هو نص السلطة أو النص الذي تدافع عنه السلطة. تثير عندي هذه الدعوة عدة أسئلة: إذا كان المقصود الدعوة إلى ثورة بروتستانتية في الإسلام تقيم علاقة مباشرة بين المؤمن والنص المنزّل (المؤسِّس)، وبالتالي تعطيه - المؤمن الفرد - المرجعية المباشرة عن تفسير النص وتأويله، فلماذا لا يقال ذلك صراحة؟
ثم هل توافق على الفرضية التي تقول إن ثمة نصاً لا زمنياً، كائناً ما كان هذا النص، يحوي الماضي والحاضر والمستقبل ويشكّل علماً واستباقاً واستشرافاً لها مُجتمِعة؟ أليس مجرد وجود «النصوص الثانية» بمثابة الاعتراف بأن «النص الأول» محدود في الزمان والمكان، أي الاعتراف بأنه ليس فوق التاريخ بل هو خاضع له؟
احتوت الأسئلة على تناول للإبداع والقمع: هل حقاً أن الديمقراطية شرط لما تسمّيه الإبداع؟ هل حقاً كان القمع يحول دون الإبداع وأعظم الأعمال الأدبية والفنية من نتاج عصور مظلمة؟
الثقافة العليا
وبالنسبة إلى أدونيس نفسه يطرح طرابلسي سؤاله بهذه الصيغة، انتقالاً من العام إلى الخاص في التجربة. هكذا تشتغل الأسئلة على تنويعات هي بمثابة مراوغة لاستدراج المساحة الخاصة لدى أدونيس من خلال إشكاليات عامة، يشغل مكاناً ما من تفكيره وتناوله: تمارس وتفكِّر على مستوى «الثقافة العليا» الثقافة التي ينتجها المثقفون. وفي ظنك أحياناً أن ثقافة الجماهير «تقليدية متخلفة». لعلك تشير هنا إلى الثقافة الدينية. ولكنك تغفل مستوى كاملاً من علاقة الشعب بحياته تتم على مستوى الثقافة الشعبية من أمثال وطقوس وعادات وشعر وقصص، وهي ثقافة تحوي طبقات متراكبة من الترسّبات تعود لما قبل الديانات التوحيدية، وتنطوي على نواح صلبة هي نواة مقاومة الظلم، وابتكار وسائل الرد على تحديات الحياة، والنزوع إلى المساواة. هل لك ما تقوله في هذا الموضوع؟
كثيراً ما يثير أدونيس مسألة درجة عمق العلاقة بينه وبين شعراء، سواء الشعراء العرب القدماء، أو شعراء عصر النهضة في أوروبا، وما بعدها. ذلك ما لفت نظر طرابلسي، فجاء بهذه الصيغة: يلفت نظري في تقديمك لنفسك في الغرب خصوصاً، إلى أي مدى تصر على تفرّدك دون سائر منتجي الثقافة العرب المعاصرين،و تردّد أن علاقتك بسوفكليس أو شكسبير أو رامبو أو ماياكوفسكي أعمق من علاقة بأي شاعر عربي قديم، لا بأس. لكن لو كان لك أن تحدد علاقتك بشعراء العربية من قدامى ومعاصرين فماذا تقول؟
وأخيراً، من بين الأسئلة التي تم تحضيرها للمقابلة التي لم تتم: أحكامك على الثقافة العربية السائدة قطعية شاملة: «ثقافة إنتاج السلطة»، ثقافة قمع الإنسان واستهلاك طاقاته، تخرج من قطاع الإبداع وتدخل في قطاع السياسة - التجارة، ألا تجد ثقافة مقاومة مبدعة للسائد؟
ضوء
يُشار إلى أن فواز طرابلسي يحمل دكتوراه في التاريخ من جامعة باريس. شغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الحرية» ومجلة «بيروت المسا».
من مؤلفاته: «وعود عدن رحلات يمنية»، وصدر في العام 2000 «عكس السير كتابات مختلفة»، وصدر في العام 2002، «ظفار شهادة من زمن الثورة»، العام 2003، «فيروز والرحابنة مسرح الغريب والكنز والأعجوبة»، العام 2004، «عن أمل لا شفاء منه»، العام 2007، «جنوب اليمن في حكم اليسار... شهادة شخصية»، «الديمقراطية ثورة»، «تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف»، «حرير وحديد... من جبل لبنان إلى قناة السويس»، «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان»، «صورة الفتى بالأحمر»، «صلات بلا وصل» وغيرها من الإصدارات.