ما يلفت النظر في دول كانت محكومة بأحزاب شيوعية، وخصوصا في أوروبا الشرقية، هو انخراط عدد واسع من مثقفيها في النضال السياسي ما مكن الكثيرين منهم ان يتزعموا بداية مجتمعاتهم المدنية، ثم يتحولون لاحقا إلى رؤساء ويقودون مرحلة التحول الديمقراطي والليبرالي في أكثر من بلد.
من هؤلاء على سبيل المثال الرئيس التشيكي هافيل والرئيس المجري قوتسي، والرئيس الروماني السابق (من 1996 إلى 2000) اميل كونستانتينسكو الذي يعتقد بأن انتهاء «الحرب الباردة» وزوال عملية الاستقطاب الثنائي وانتقال مراكز القرار على المستوى الكوني بعيدا عن مراكز القوة التقليدية، عوامل زادت من اهمية دور المثقف.
هذا الرجل لفت اهتمام المشاركين في «المائدة المستديرة» التي نظمتها المنظمة العالمية للفرانكفونية في تونس، بالتنسيق مع المعهد العربي لحقوق الانسان (من 21 إلى 23 سبتمبر/ ايلول)، وجمعت حوالي ثلاثين خبيرا دوليا، منهم وزراء سابقون، طلب منهم إعداد وثيقة عمل عن «التنوع والحقوق الثقافية» سترفع إلى قمة الفرانكفونية التي ستحتضنها بيروت في 12 و13 أكتوبر/ تشرين الاول.
وعلى رغم انه مختص في الجيولوجيا فإن الصراع الذي دار بين النخب المطالبة بالديمقراطية والرئيس الشيوعي السابق كونستانتينسكو قد فرضت عليه اعطاء الاولوية للعلوم السياسية وقضايا المجتمع. وقد قادته تأملاته وتجربته في الحكم إلى الاعتقاد بأن الاستعمار لن يختفي في الالفية الثالثة، لكنه لن يلجأ في المستقبل الى الوسائل العسكرية والادارية ليفرض هيمنته على الشعوب، وانما سيكون سلاحه الاستراتيجي هو النظام التجاري. ان مستعمري الغد لن يذهبوا للبحث عن الثروات واليد العاملة وانما سيكون سندهم في تحقيق أغراضهم جماعات المستهلكين.
يعتقد ايضا بأن الحضارة الصناعية، او ما يسميه بالغرب الاوروبي مصاب بأمراض من بينها الشعور بالكمال، والبيروقراطية، واللجوء الى الحلول الملفقة. ويعتبر ان حضارة الالفية الثالثة لن تكون حضارة العقلانية الاقتصادية مثلما تبلورت في الغرب خلال القرون الاخيرة، بقدر ما هي تتجه أكثر فأكثر نحو حضارة المعرفة وحضارة التأليف (التركيب) بين مختلف الحضارات أو الثقافات. ونظرا لتعلقه بمحيطه الثقافي يشير الى ان الحضارات التي عرفتها اوروبا الوسطى والشرقية لم ترتكز على قيم النجاعة والحساب والفعالية، وانما على التفكير والخيال والابداع. لهذا تراه مؤمنا بأن هذه الحاجة إلى الغيبيات وإلى الاشتراكية تشكل المهر الثمين الذي يمكن ان تهديه منطقته إلى اوروبا الموحدة.
من هذه الزاوية دعا في اللقاء إلى اعادة تأسيس السياسة ومراجعة الفعل السياسي. فالسياسة يجب ان تتوقف باعتبارها طريقة لتنظيم العلاقات بين الاصدقاء والاعداء، لتصبح الصيغة الوحيدة للعيش معا. وبناء عليه يرفض اعتبار انتصار الديمقراطية واقتصاد السوق نهاية للتاريخ، مؤكدا ان الواقع يكذب تلك الفرضية، وان الناس لايزالون احرارا في اختراع طرق اخرى، وبناء مؤسسات سياسية تتماشى مع اوضاعهم الخاصة بهم. وذكر انه اذا كانت مرحلة عصر الانوار والثورة الصناعية تميزت بتفاعل متدرج للشعوب مع القيم الرمزية والمادية التي بلورتها النخب، فإن القرن العشرين قلب المسار، حين قامت النخب بالمشاركة إلى حد الاندماج في ثقافة الجماهير.
ثم يعود اللقاء الى الحضارة الغربية ليؤكد انها بعد ان كانت ملهمة للتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشمال والجنوب، تحولت الى مجتمع منظم من اجل الانتاج والاستهلاك والاعلام. لكنه يتساءل: ماذا ينتج؟ وماذا يستهلك وماذا يعلم؟. ويجيب: ينتج فقط ما يفرضه السوق، ويستهلك فقط ما تعتبره استراتيجيات الاعلانات متطلبات السوق، ويعلم بما تختاره وكالات الانباء العالمية. وهكذا اصبحت رموز ثقافة الاستهلاك تهدد تراتبية القيم التقليدية وتهيمن على كل المجالات. واذا كانت الحضارة الصناعية افرزت الطوباوية الشيوعية التي اعادت توزيع الفقر المادي باسم البروليتاريا الصناعية، فإن نموذج مجتمع ما بعد صناعي ادى إلى تأسيس «الاوطوبيا الاعلامية» التي ليست سوى موزع للفقر الثقافي باسم المستهلكين.
وحذر اللقاء في هذا السياق من خطر التنميط الثقافي الذي جعل السمعي البصري يهدد الكتابة، وأوهم الجميع بأنهم يمكن ان يتحدثوا لغة واحدة، وأن يلبسوا بالطريقة نفسه، وأن يعتقدوا بأن تراث الانسانية لم تعد له اي قيمة، وان القيمة الوحيدة التي يجب التمسك بها هي قيمة العمل او المال.
وهكذا فهمت الحداثة في اعتبارها مسارا يؤدي حتميا إلى تفكيك الروابط الهيكلية المقبلة في المجتمع. واللقاء لا ينكر ما حققته الحداثة من مكاسب لكنه يعتقد بأن ما يجب التركيز عليه في هذه المرحلة هو حماية الميول الطبيعية في الانسان نحو العيش والنمو داخل اطار الامة او الجماعة. اذ بهذا فقط تثبت الحداثة انها في مستوى الانسان، وانها معدلة على قياسه. وينتهي اللقاء إلى اطروحة هذا المثقف/ السياسي المقبل من اوروبا الشرقية الفكرية بالقول «ان وظيفة السياسة في مفتتح القرن الجديد لا تعد إلا بالكوارث، وانه لا يمكن تجنب ذلك إلا اذا قام رجال الثقافة في المقام الاول بصوغ اجابات عن كل التحديات التي تواجه العالم». وللوقوف على عتبة اخلاقية ورمزية يقترح اللقاء على النخب ان تجيب عن أسئلة اربكت الضمائر والعقول منذ آلاف السنين: من نحن؟ ومن أين أتينا؟ وإلى اين نحن ذاهبون؟
العدد 25 - الإثنين 30 سبتمبر 2002م الموافق 23 رجب 1423هـ