انتظرَتْهُ طويلا لكنّه لم يأتِ، ولم يتصل أيضاً ليبرّر غيابه. دفعت الكرسي إلى الوراء وانتصبتْ واقفة. وفي محاولة يائسة منها، لبستْ كبرياء الأنثى التي تمشي على جروحها دون أن تصرخ, ثمّ مرّتْ من أمام نادل المطعم الذي رمقها بنظرات الشفقة القائلة: "لم يأتِ إذاً! يا مسكينة"!
في الخارج كان الجو ماطراً والظلام قد نشر خيوطه. إنّ هذه الأمطار الربيعية مثله تماماً، تأتي بلا موعد وتذهب فجأة، متحدّية الأرصاد الجوية. سألتْ نفسها... لماذا هو تحديداً؟ عشاق كُثُر طرقوا أبواب قلبها لكنّها لم تفتح لهم. وحده هو من بذل أقلّ مجهود للوصول إليها. طرق الباب مرة واحدة ففتحت له بسرعة ثم تركت روحها تنام بين ذراعيه.
سألت نفسها مرة أخرى... لماذا هو؟
لم يكن وسيماً أو غنيّا. حتى شخصيته لم تكن من الشخصيات الآسرة بحديثها. كان رجلاً عادياً لا يثير الدهشة. يداوم في الشركة نهاراً، ثم يتسكع مع أصدقائه مساءً، وفي العطلة يبقى ملتصقاً بالفراش... يمسح برامج التلفاز بعينيه وبرامج الهاتف بإبهامه.
"أين سنخرج الليلة يا عزيزي"؟
"سأسهر عند أبناء عمتي الليلة".
"لكنك وعدتني أن نخرج اليوم ونتعشى في المطعم".
"الجمعة المقبلة يا حبيبتي. سوف أعوضك بأحسن منها".
تأتي الجمعة المقبلة، فتعود حليمة إلى عادتها القديمة. وهكذا منذ أن تزوّجا قبل سنة. اعتادت على كثرة استخدامه لكلمة (سوف)... سوف نذهب، سوف نخرج، سوف نفعل، سوف نتكلم، سوف أتغير!
يستمر هو بوعوده التصبيرية... وتستمر هي بالانتظار على نار، وفي قلبها شعلة أمل بالوفاء يغذيها حبها له.
لقد أكّدت عليه في الهاتف أن يحضر للمطعم الذي كانا يلتقيان فيه قبل أن تضع في إصبعها خاتماً ذهبياً يحمل اسمه. أرادت أن تزفّ له خبراً مفرحاً في المكان نفسه الذي كانا فيه عصفوريْ حب جديدين. لكنه كعادته، نسي أو تناسى... أصبح الأمر سيان بالنسبة لها.
وصلت إلى البيت ولم تجده، اتصلت به لكن هاتفه مازال مغلقاً. بدأت نقاط الأفكار السوداء تتجمع في مخيلتها حتى كوّنتْ غرابا أسودا، بدأ يحوم حول رأسها ويصيح: حصل له حادث سيارة... إنه في المستشفى... أغمي عليه في مكان ما.
رجفت شفتاها معلنة اقتراب سقوط الدموع. لكن قبل أن يبتلّ خداها سمعت طرقة باب البيت.
دخل وهو يتكلم بهاتفه المحمول وقد ملأ صدى ضحكاته زوايا البيت. دخل المطبخ حيث تجلس. رفع يده ملوّحاً لها، ثم جلس بجانبها.
انتهى من مكالمته، فصاح مبتهجاً: "عندي لك خبر بمليون دولار".
قالت ببرود: "ماذا هناك"؟
قام من الكرسي واقترب منها. وفي حركة لم تتوقعها أبداً، احتضنها بقوة من الخلف حتى ظنّتْ أنها في حلم.
قال: "لقد حصلتُ على ترقية في العمل. أنتِ تقفين الآن مع نائب مدير الشركة".
"مبارك لك".
"ولماذا تقولينها هكذا. لقد توقعتُ منك حماساً أكبر".
"لماذا تأخرت على موعدنا"؟
"أوه صحيح... آسف يا حبيبتي. سوف أعوّضك أعدك بذلك. كل ما في الأمر أني ذهبتُ للاحتفال بالمنصب الجديد مع أصدقائي".
جاء سؤالها مباغتاً: "هل تحبني يا كريم"؟
"ما هذا السؤال التافه يا روضة. أكيد أحبك، لذلك تزوّجتك! أرجوك دعكِ من الغضب الآن ولنحتفل بترقيتي".
ابتسمت بفتور وقالت: "حسنٌ".
ذهبتْ لتعدّ العشاء فناداها: "صحيح. ما هو الخبر الذي أردتِ قوله لي في المطعم"؟
أجابت وهي تشعر بشعلة الأمل تنطفئ في قلبها: "لا شيء مهم..." سكتت قليلاً كممثلة درامية تستعد لقول جملتها التي ستقلب أحداث القصة بالكامل: "فقط ستصبحُ أباً يا عزيزي".
أعجبتني. رائعة جدا.
سلمت يداك
جميلة القصه
جميلة جدا . استخدام كلماتك ووصفك لمشاعر البطلة رااااائع. تستحقين الفوز بجدارة
جميلة القصة