في قريتي لا ترثُ النساء، ولم ينجب والدي إلا إناثا، وصل عددهن لِثَمان، لذا قرّر الزواج من أخرى مادامت الأولى عاجزة عن الإتيان بالذَّكر. سعى والدي بذلك لصون أرض ورثها عن أجداد الأجداد، لكن القدر عاكسه من جديد ووُلدت أنا. جئت إذن للدنيا على رغم أنفها. وكانت ولادتي شهادة عصيان. عصيان لم أملك أن اختاره ولكني عوقبت به مثلما عوقب بالصخرة سيزيف. ذلك أن والدي رفض الانصياع لقدره، بل شرع يشكّل قدراً على مقاسه ووفق هواه. خرج إلى القرية فور ولادتي يعلن لأهلها انه أخيراً رُزق بالولد، وأن الجميع مدعوون للاحتفال. اختار لي من الأسماء "راجي"، ومن الأقمشة ما يناسب الأولاد وطفق يكلمني ويعاملني كصبي. وكانت والدتي تؤازرني في صمت، فلم يكن للمسكينة أن تملك غيره.
قضيت كلّ حياتي سجينة لتعنّت والدي. لكن هذا السجن في البدء لم يؤذني فلم أكن أشعر به، كنت كطائر ولد بالقفص، فهو لا ينشد الحرية لأنه لا يعرفها. وكان والدي فوق ذلك يختصّني بالرعاية والتفضيل، فبينما كانت أخواتي تلزمن البيت وأشغال البيت، كنت أنا أرافقه في رحلات صيده وفي نُزَهه. كان يحدثني طول الوقت عن مكانتي وأهميتي لديه. وكنت لذلك أنظر إلى أخواتي فأحسب حالي أفضل من حالهن وأغتبط. لكن اغتباطي لم يدم طويلاً، فسرعان ما مرت السنون، وبدأت أسئلة لم أجد سبيلاً للإجابة عنها تحيرني وتُلحّ علي، وبدأ في ذلك الوقت تعنّت والدي يقوى ويشتدّ، فقد كان يُعدّني لسباق الخيل الذي يقام كل سنة في القرية ويخوضه من صبيتها من أينعَ واشتدّ عوده. كان والدي في كل يوم يُخضعني لتمارين مجهدة وقاسية، وكنت أنا أُقبل على الجهد بحماس زائد، ففيه أُغرق أسئلتي وحيرتي النّاشئة.
وجاء يوم السباق، وكان موعداً مشهوداً، شُدّت إليه الرحال من كل مكان، وأُقيمت له أهازيج وأفراح ثم اكتظت له جنبات الحلبة بجموع من المحتشدين. لم يغمض لوالدي جفن في الليلة التي سبقته، وكانت أصابعه كأنها ترقص وهو يغطّي جسدي برداء السباق ويحكم حزم الرباط حول صدري. كان للفرح في عينيه بريق آسر وعلى شفتيه كل الرضا. وكان جوادي أدهم ذو غرّة بيضاء، منتظم الصهوة، رشيق الجسم، جماله أخّاذ فاتن.
ما إن أخذت مكاني فوق ظهر الجواد حتى بدا لي الأفق. وما إن انطلق السباق حتى تقدّمتُ باقي المتبارين. مازالت الأصوات ترنّ في مسامعي إلى اليوم: أصوات الحشود تهتف جميعها لتردّد الاسم نفسه: "ٍراجي... راجي...". كان للكلمة في أذني وقع لم أشعر بمثله قبل ذلك اليوم. فاستقمتُ أكثر فوق الجواد، أحكمت قبضتي على الزمام، ثم ندّت عني صرخة انطلق لها جوادي يسابق الريح. اِشتدّ الهتاف لذلك حد الصخب، وبعد ذلك خَفَتَ شيئاً...فشيئاً...فشيئا.
قصة جميلة.....حظا موفقا