انتهى الجزء الأول من استعراض ورقة البروفيسور كاظم مؤنس، التي حملت عنوان «دراسة في شعر قاسم حدَّاد»، التي قدَّمها في في فعالية استضافة الجامعة الأهلية الشاعر والأديب البحريني قاسم حداد بالإشارة إلى أن القصيدة لدى حداد ليست كلاماً منثوراً بل هو صنعٌ سيميائي ومناورة ذهنية بإقامة علاقات بين الكلمات والأشياء تتمثل بالإشارة إلى الأشياء دون تحديدها، فحداد شاعر لا يحاكي وإنما يخلق تناغماً بين الذات وما حوله وهو ما يُسميه تودوروف في كتابه الشعرية «بالتناغم المحاكي» بعبارة أخرى تجريد الأشياء بفصلها عن عالمها وإعادة خلقها؛ ما يكسبها الدهشةَ والمباغتةَ، لذا فالقصيدة لديه احتضار تنصهر فيه الذات في الفيض الوجداني.
يتناول البروفيسور كاظم مؤنس في الجزء الثاني من ورقته التي قدَّمها في فعالية الجامعة الأهلية، المنفى والاغتراب في شعر حداد، فيما نقف على «أدبية الخفاء والتّجلّي في (قبر قاسم)»، وهو عنوان ورقة رئيس قسم اللغة العربية والدراسات العامة في الجامعة علي فرحان.
يرى مؤنس أن «المنفى والاغتراب، والمكان والموت، ظاهرة في شعر حداد، وهي وفي الواقع تعمل في اتجاهين متضافرين فبعضها معنيٌ برفضِ المكان وبعضها يشتغل على استعادة المنفى كمكان ممكن ومستحيل في آن معاً».
يتجاوز المكان لدى قاسم ذلك الحيِّز المادي الجغرافي الذي نألفه إذ يتجلِّى في العديد من نصوصه باعتباره مداخل للأشياء التي يحتويها فضاء نصه، فلا تعود أشياء، بقدرة اللغة لديه على شحن الصور وجعلها تمور بالأرواح. المكان الذي يكون وعاء لمخلوقات النص، تلك التي تؤثثه، في الوقت الذي تملأ العين برؤيتها.
ومن هنا تقرر ورقة البروفيسور مؤنس أن المكان «ليس مكانا جغرافيا فحسب بل هو مفتاح للأشياء ووسيلة مثلى لاستدعاءات شعرية. ومشاهد المنفى والاغتراب لا تمثّل بدورها أماكن مجرّدة أو مناظر طبيعيّة عاديّة، بل هي فضاءات محمّلةٌ بجغرافياتٍ عاطفيّةٍ وشحناتٍ وجدانيّة. هي فضاءٌ مسكونٌ، لا بل مزدحمٌ بالعاطفةِ، يخترقهُ من أقصاه إلى أقصاه مَعيشٌ».
إنساني وتوتر وانفعال
لا يحضر المنفى في النص الشعري باعتباره مكاناً أيضاً، بقدر حضوره باعتباره عراء؛ حيث لا زمان ولا مكان. البروفيسور مؤنس يراه حاجة في النص، وأراه خلاف ذلك. لا كيفية لحضور المنفى والوطن. الحاجة كيفية نفسية وذهنية. يحضر في النص في سياق منظومة متكاملة، ليست اللغة أولها فحسب، ولكنه السياق الذي لا يضع الشاعر مخططاً له. إنه التداعي أحياناً، ذلك الذي يأخذ النص إلى مساحات غير مُخطط لها، فكل مُخطط له في الشعر يخرجه من صفته.
يقترب البروفيسور مؤنس من ذلك المعنى، وإن التزم بمنهجية هي من اشتغاله؛ وخصوصاً في استعراضه بعض المقاطع من نصوص حدَّاد. يقول مؤنس: «المنفى هو الاضطرار والحاجة ويستخدمه حداد في معايير محايثة تجعل منه كل فعل انتقالي أو كل فعل له علاقة بالنهاية مع شيء ما كالموت مثلاً الذي يكرره كثيراً: ليست نزهة/ من يعرف؟ /لكأن ما أراه من بياض هو الكفن المنتخب». وفي توالي فكرة الموت نفسه، نقف أمام نماذج من النصوص: «تقدَّم/ ما أبهاك/ وأنت إلى الكتابة كأنك إلى الموت
«كلما داعب الأصدقاء جراحي/ تماثلت للموت»...
وفي المقطع 67 من «صائد الضوء» نجده يخاطبه بالقول: «أيها الموت/ يا حبيبي»... وفي موضع آخر نقرأ له: «آن السفر/ آن السفر ولا رجوع/ لم يعُد في الفضاءِ هواءٌ لكي تأخذُ الجثةُ شهقة».
ويضيف مؤنس «أما فيما يختص بالمنفى فمن معاييرهِ الاغتراب عن الواقع فيصبح المنفى مقيماً في ذات الكائن وبالنسبة إلى الاستخدامات الشعرية فالسوداوية لدى الشعراء لطالما ترافقت مع هذا الموضوع في معاودة لافته للمنفى المنفى ليس مسألةَ مسافة بل مسألة عيش، وهو شعور نسبي يلازم وجدان الشاعر، هو نفي يومي للإنسان داخل الشاعر».
وفيما يتعلق بالمحايثة التي تطرق إليها ورقة مؤنس، في التعامل مع التراث، وتحديداً في قصيدة «طرفة بن الوردة»، نتلقاها باعتبارها مقابلاً للمفارقة بدلالة حضور «الشيء في ذاته»، وهي هنا تمثل «لطرفة بن العبد، الذي يستبعده الشاعر في العنوان، ويتماهى معه في مأساته؛ حيث تتصاعد مكابدات الشاعر تدريجياً معاتباً البلاد التي قتلته والتي ما زال يحملها كوكبا في قميصه، يحاورها ويطرح عليها أسئلة حيرى، أسئلة صعبة، يكتب سؤاله الفلسفي عن الكون والإنسان والقلق الأزلي عن المخاوف والتشبث بالأمل عن المرارات والخيبات والوجود عن الشاعر الخالد عن الذي يأتي الآن وبعد الآن في ماء الحقول، عن التشبث بشاطئٍ يرسم البحر مثل البلاد التي يقبل أعذارها فيبني حوارية تتماثل وأن اختلفت الشخوص مع المقاطع الآتية: رأيت الذي يحدث حاورني/ ما الذي حولَ الغصن بيتاً/ وحولني ضحكةً في البكاء/ وحيدٌ وصحرائي العشق/ ما زلت أخلقُ في الليلِ باباً ونافذةً للحوار/ وأبحثُ عن شاطئٍ يرسم البحر/ مثل البلاد التي سوفَ أقبلُ أعذارَها/ ثم أصرخُ/ أيتها الأرض لا تخذليني».
ويُحدِّد البروفيسور كاظم مؤنس خلاصة ورقته «دراسة في شعر قاسم حدَّاد»، في أنه ﻻ ﻭﺯﻥ ﻟﻠﺸﻌﺮ ﺍﻟﻤﻨﺜﻮﺭ، ﺑﻞ ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻨﻮﻉ ﺧﺎﺹ ﻣﻦ ﺍﻹﻳﻘﺎﻉ ﺍﻟداخلي. والإﺗﻴﺎﻥ بالفواصل ﻭﺍﻟﺴﻜﻮﻥ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﻭﺍﻹﺿﺎﻓﺎﺕ ﻭﺍﻟﻀﻤﺎﺋﺮ. ﺗﻘﻄﻴﻊ ﺍﻟﺠﻤﻞ ﻭﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﻗﺴﺎﻡ ﺃﻛﺜﺮ ﻗﺼﺮﺍً ﺃﺛﻨﺎء ﺍﻟﻨﺺ. ﺍﻹﺗﻴﺎﻥ ﺑﻜﻠﻤﺎﺕ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﻭﺯﻧﺎًَ. الاﻫﺘﻤﺎﻡ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﺑﺎﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﺔ ﻟﻠﻜﻠﻤﺎﺕ ﻭﻫﻮﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻴﺔ. ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺠﻨﺎﺱ ﻭﺍﻟﺘﺮﺻﻴﻊ ﻭﺍﻟﺘﻜﺮﺍﺭ. والتقابلات والتعارض. ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻠﻐﺔ، ﺑﺮﻭﺯ كبير ﺟﺪﺍً ﻟﻜﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﻫﻮﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ومهمة ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺍﻧﻜﺸﺎﻑ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﺍﻟﻮﺟﻬﺎﺕ. وميْل الشاعر إلى توظيف الأسطورة والأحداث التاريخية دون الإشارة إليها بالإشارة الواضحة.
أدبية الخفاء والتّجلّي في «قبر قاسم»
بحسب ما يبدأ به رئيس قسم اللغة العربية والدراسات العامة في الجامعة، علي فرحان، تؤسس ورقته لقراءة مغايرة لديوان «قبر قاسم» للشاعر قاسم حداد؛ بحيث تضع خطوطها العامّة وَفق منهج قرائي ينتقل بالنّصّ المبدَع من وضعية الخفاء والغموض إلى فضاء الكشف والتّجلّي والبروز، وإذْ إنّ طبيعة القراءة وحساسيّتها وقيمتها وجدواها تسهم في صوغ شكل الخطاب، وتحرّض كمونات النّصّ على الظهور والبروز والانتشار، وتعمل على بعث النّصّ في فاعليّة تستمرّ باستمرار القراءة، فإنّ لنوعية القراءة أثرًا في درجة فاعليّتها وجدواها».
ماذا بعد؟ عن «قبر قاسم» يبدأ القراءة بالقول: «إنّه علامة توقف قاسم عن الكتابة الإبداعيّة الشّعريّة؛ بما توحي به محمولات القبر من الاختفاء والتواري؛ فلا مناص من اختراق لكثافة النّصّ الشّعري لهذا الدّيوان في إطار تجربة الشّاعر الّتي لا تنفكّ عن رؤاه وتصوراته ومنطلقاته في مشروعه الفنّي الكبير الّذي بدأ في الربع الأخير من القرن الماضي ولما ينتهِ ليوم النّاس هذا».
وعودة إلى «موت الكورس» الصادر في العام 1984م، الذي جمع حدّاد والروائي والقاص والمترجم والسيناريست أمين صالح، يحضر التأسيس هنا أيضاً، وهذه المرة «لمشروع يتّسم بالثورة والتّمرّد على كلّ شكل أو بنية قرّتا على بناء محدّد ولم تتجاوزه»، اقتناصاً لبعض ما ورد فيه، يؤطره فرحان هنا بالأديب: «ليس عبداً للأشكال بل خالقاً وخائناً لها في آن واحد، كل شكل يصير قفصاً في اللحظة التي يثبت فيها ويستقر، جئنا لنلهو بالأشكال، نبتكر شكلاً لنحطمه في اليوم التالي، هكذا نبارك حرية الكاتب الداخلية ونمجد سطوته على مخلوقاته».
وعودة إلى «قبر قاسم»، الذي لم يكن «إلا تمرّدًا على الأشكال الّتي قرّت في البناء الشّعري العربي قديمه وحديثه، وحتى لا يثبت ذلك الشكل ويستقرّ كان من الحتميّ أنْ نفهم أنّ قبر قاسم ليس إعلاناً عن موت الكاتب وتوقفه عن الكتابة؛ فسرعان ما حَطّم ذلك الشّكل من الدّاخل مفسحاً لنفسه التمرّد على ذلك الشكل حتى لا يتحوّل قفصاً، لا شيء أقدس عند قاسم من الحريّة الّتي تجعل من المبدع قادراً على الهيمنة على مخلوقاته الإبداعيّة فتخضع له لا أنْ يخضع هو لها».
مؤكداً مرامي عنوان ورقته بأنه «(في قبر قاسم) ستجد كثيرًا من الخفاء والتّجلي في جدلية لا تنتهي بين ذات الأديب وذات الثقافة بكلّ ما فيها من ألوان السلطة الّتي يتقاطع معها الأديب ويتضادّ، ولا يرضى بهيمنتها في صورها المختلفة ولا بأي لبوس تتلبس به».
وقاسم «صانع المعنى»، «يرفض كلّ ألوان السلطة الّتي تتحوّل قفصًا تقيّد الشّاعر - ويوجّه الذّات الشّاعرة إلى رفض كلّ هيمنة تهيمن عليها حتى هيمنة المعنى الكامن في اللغة».
كلمة... خلاصة
على رغم جوانب من المنهجية الواضحة في مساحات كبيرة من الأوراق التي قُدِّمت في استضافة الجامعة الأهلية للشاعر والأديب البحريني قاسم حداد؛ ومحاولاتها الاقتراب من فضائه الشعري؛ إلا أنها لا تدِّعي إحاطتها بذلك الفضاءات وإن اقتربت منه، ولم تسلم رؤى في تلك الأوراق من الخلط بين الانطباعية من جهة والعودة إلى المنهج من جهة أخرى، في مراوحة بين هذا وذاك؛ ما ضيَّع الكثير من التزام منهج محدَّد في القراءات من مفتتحها حتى الخلاصات التي قدَّمتها. في خلاصة: مجمل الأحكام التي وردت في الأوراق لم تغادر الانطباع، وإن اتخذت مسحة المنهج، على رغم أنها أحكام أنصفت النصوص والتجربة. تظل أزمة المنهج النقدي العربي الخالص تعاني من غياب وفراغ كبير، وجلُّ ما يتم إعماله في قراءة وتشريح النصوص هو من خارج الدائرة الثقافية العربية، وبامتياز في كثير من المساحات والمشروعات؛ الأمر الذي وضع القارئ أمام تشوُّش واضح، بذلك الإغراق في المفاهيم التي كثيراً ما تُضبِّب على النص أكثر من استجلائه واكتشافه.
نص - قاسم حدَّاد
الوقت
كم سوف يبقى من العمر كي أسألَ الله أن يجمعَ الأصدقاءَ ويرسمَ حبَّ العدِّوِ لهم ويؤلفَهم في الكتاب الجديد بما يمسح الحقدَ من قلبهم ثم يسعى بهم للبعيد القريب من الناس يستوعبون الجراحَ ويَحْنُونَ أعناقَهمْ للصديقْ.
كم يا تُرى سوف يكفي من العمر نرجو السناجبَ كي لا تقوّض هيكلنا في الطريق الى الله يبقى من الله فينا قليلاً نؤجلَ أخطاءنا ونحضُّ السماءَ على العفو كي لا يزيد الطغاةُ من العسف في بيتنا ليتنا نسألُ الله في غفلةٍ أن يكفَّ الدعاةُ إلى الموت باسم الكتاب العتيق.
كم سوف يكفي من الدَّم كي نحتفي بالضغينة وهي تزول من النص يبقى من العمر وقتٌ نؤدي به حاجةَ الروحِ بعد النقائض قبلَ الحريق.
كم سوف يحتاج ترميمُ أرواحنا بعدما هشمتها الشظايا فهل من بقايا من الشمس تكفي لمستقبلٍ عاطلٍ في المحطات قبل البريق.
يا ربُّ هاتِ الأحباءَ يستقبلون معي غدهم في الحقول البعيدة عن عتمات المعابد هات الندى في القلوب الحسيرة/ قل هو الوقتُ يكفي ففي الحب بوصلةٌ للطريق.
اضحكْ قليلاً
أين أنتَ عن أطفالي. لقد صَلّى لك الكون. الرجالُ ركعتْ والنساءُ سجدتْ. وتضرعتِ الحشودُ لئلا يطالَها عسفٌ. ولا يسحقها ظلمٌ. ولا تلهو بها متاهة. أين أنت لكي نُصدّق أنكَ هنا. هل أنتَ هناك. ومن نحن لكي ندرك من أنت.
كيفَ يُمكنُ الظنّ. وكيف نصدُّ شكاً ضارياً. وأنتَ لا تضحك لنا ولا تمنع عنا جوعاً ولا عطشاً. تعبسُ في وجوهنا بالرهبة. تسمِّي الشمسَ لنا والظلَّ علينا.
اضحكْ قليلاً يا الله. نحبك مبتسماً. لنقنعَ أطفالنا بالصلاة.