قبل شهرين تلقيت دعوةً جميلةً وغير متوقعة أبداً، كانت من أحد زملاء الدراسة القدامى، وذلك لحضور حفل زواج نجله في جمهورية الهند. وقد حرص زميلنا هذا أن يفاجئنا جميعاً بدعوة زملاء الجامعة class mates ويجمعنا لنستعيد ذكريات الدراسة التي مضى عليها أكثر من خمس وعشرين سنة. قضيت هناك سنواتي الأولى الدراسية قبل أن أتركها وأتوجه إلى من استعمر هذا البلد لاستكمال الدراسة، وهي انجلترا التي هي عالم آخر تختلف تماماً اقتصادياً وثقافياً.
الحياة الجامعية لها طعم خاص، وأيامها جميلة لا تمحوها السنون، وتتذكرها بشوق وحنين، ليس لكونها تحمل في ثناياها نضوج الفرد وأفكاره، وإنما هي باب عريض يطلعك على عادات وثقافات الآخرين، فهي مرحلة نوعية بحلوها ومرها، وخاصة في تكوين علاقات صداقة متينة، قد لا تنتهي بمجرد التخرج من الجامعة.
إنه وبفضل العولمة، وما أنجبته من تطور في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحول العالم إلى قرية كونية صغيرة Global Village، استطاع صاحبنا هذا من أن يصل إلى غالبية الزملاء، والتعرف عليهم فرداً فرداً، من خلال برامج الفيسبوك والواتس آب. عالم غريب جداً، إنه ثورة المواصلات والاتصالات، عالم تنتشر فيه المعلومات والثقافات بأسرع من سرعة الصوت، فالمعلومة أو الخبر الذي كان يأخذ أسابيع حتى تعرفه شعوب العالم، يحتاج الآن إلى ثوانٍ معدودة. عالم يختصر المسافات والزمن، أصبحنا نحن سكان الأرض قريبين من بعضنا البعض نسكن في قرية كونية أصغر مما نتصوّر.
حرصت على تلبية هذه الدعوة التي أعتبرها إحدى المفاجآت الجميلة، وإحدى إيجابيات ثورة الاتصالات، فلم أتردّد في قبول الدعوة، خاصةً بعد معرفتي بأن كثيرين من زملاء الدراسة سيحضرون حفل الزواج. فهي فرصة جيدة للإلتقاء بهم جميعاً، ومعرفة أخبارهم بعد كل هذه السنين الطويلة من الانقطاع. كنت في الواقع مشتاقاً ومهتماً لألتقي بهم جميعاً مرة ثانية، ومعرفة عقليتهم وفكرهم ورؤيتهم في الحياة، وكيف تأثرت وتغيّرت عبر هذه العقود الطويلة.
لقد شهدت الهند خلال الثلاثين سنة الماضية تطوراً اقتصادياً هائلاً، مكّنها من أن تصبح من الدول الصناعية الناشئة، ما أهّلها لتكون ضمن مجموعة العشرين G20، أي أكبر الدول الصناعية في العالم. فكنت في الواقع متلهفاً لمعرفة ذلك التطور، وانعكاسه على عقلية المواطن الهندي. فزملاؤنا في الجامعة حسب معرفتي القديمة لهم، كانوا فقراء وبسطاء، وبعضهم قد عايش الفقر المدقع، حيث أثّر ذلك على تعاملهم وعلاقتهم الاجتماعية معنا كأفراد من مجتمعات تتمتع بمستوى معيشي أفضل نسبياً. فكان الفرد منهم آنذاك يحلم بالحصول على فرصة عمل في دول الخليج العربي.
قبل ليلة حفل الزواج، دعوت خمسة منهم (زملاء الجامعة) على وجبة عشاء في أحد المطاعم في مدينة بونا الصغيرة، والتي كانت في الثمانين من العقد السابق تعج بالطلبة والسوّاح من مختلف الجنسيات، عرباً وأفارقة وأوروبيين وأستراليين. كنا أيام الدراسة عندما يكون لنا لقاء أو تجمع في مكان ما، كان الهنود، بحكم محدودية دخولهم المتدنية جداً، يأتون إما على دراجة هوائية أو كل ثلاثة يشتركون في تاكسي محلي ذي ثلاث عجلات (ركشا) بقيمة لا تتعدى خمس روبيات تُقسّم على الثلاثة، أما الآن فقد تفاجأت، ولم أصدق عيني بعد أن رأيتهم وهم يأتون بسيارات فارهة أجنبية الصنع يابانية وأميركية وغيرها. امتلاك مثل هذه السيارات في الثمانينات كان أمراً مستحيلاً لـ 95% من الشعب الهندي، فمن النادر جداً رؤية سيارات أجنبية في شوارع الهند خلال تلك الفترة، فالضرائب على السلع الأجنبية آنذاك كانت تصل إلى 300 في المئة، والطبقة الغنية جداً هي التي كانت تستطيع شراء السيارات الأجنبية وحتى محلية الصنع. الغالبية الساحقة من الشعب الهندي كانت من ذوي الدخل المحدود جداً، فكانت الدراجة الهوائية والنارية الوسيلة الأكثر استخداماً. الدراجة النارية التي كنا نحن الخليجيين نستخدمها كانت مؤشراً على الثراء النسبي.
وصلنا المطعم والتقينا ببعضنا البعض، في البداية كنت محرجاً أن أسأل عن وظائفهم ومناصبهم الإدارية، وذلك بمبدأ أن لا تسأل المرأة عن عمرها، ولا الرجل عن وظيفته. كان اعتقادي إنني أكثرهم دخلاً وأعلاهم منصباً، والأكثر من ذلك كنت أعتقد بأن نظرتهم القديمة لي كمواطن خليجي ثري جداً لم تتغيّر بعد، وأن طلباتهم القديمة لي لمساعدتهم في الحصول على فرصة عمل في البحرين لا تزال قائمة. ولكن سرعان ما أدركت أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، وأن هذا البلد قد قطع مسافة كبيرة نحو الازدهار، وتعمّق كثيراً في حقول الإبداع والابتكارات. يكفي أن أحدهم قد عرض علي الاشتراك معه في مشروع استثماري برأسمال كبير.
من ضمن المدعوين على العشاء، كان هناك زميل اسمه Ann الذي أتذكره تماماً أيام الدراسة، حيث كان طالباً مجتهداً في دراسته من عائلة فقيرة، هادئ ومنطوٍ على نفسه كثيراً، درس الاقتصاد، يسكن في السكن الداخلي للجامعة، والتي عادةً ما يسكنه ذوو الدخل المحدود جداً. وأتذكّر أنه، وبسبب وضعه المعيشي الصعب، كان دائماً يوصيني بمساعدته في إيجاد فرصة عمل في البحرين براتب قد لا يصل إلى 100 دينار، الآن Ann هو مدير تنفيذي في إحدى الشركات الكبيرة في الهند، لديه سيارة فارهة جداً، وقد تمكّن من تكوين ثروة هائلة من العقارات والأسهم والأصول الأخرى. وعندما يتحدّث عن الاقتصاد الهندي ومستقبله تشعر بأنه صاحب نظرة وخبرة عملية عريقة، يحلم بل ولديه كل الثقة بمستقبل زاهر لبلده، حيث يعتقد بأن الهند في طريقها لتصبح قوة اقتصادية عظمى.
كان معنا على المائدة زميل آخر أصبح هو أيضاً مديراً في شركة كبيرة لتقنية المعلومات، براتب يفوق 3000 دينار، أما الثلاثة الآخرون، فواحد منهم رجل أعمال، والبقية أساتذة في الجامعة. وخلال تناول العشاء دار بيننا حوار خلاصته، هو أن العالم قد تغيّر، وأن البلدان في منافسة شرسة لاستقطاب الأموال، وتحقيق المناصب الأولى في النمو والرفاهية والازدهار والاستقرار. أما بالنسبة لفاتورة العشاء فخلافاً لما كان يحدث في الماضي، عندما كنا نتقاسم المبلغ، فقد أصرّ أحدهم على دفعها. يذكر أن الأسعار قد ارتفعت بنسبة 200 في المئة مقارنةً بأسعار الثمانينات.
في اليوم الثاني، وفي حفل الزواج، التقينا مع بقية الزملاء، فمنهم من تغيّرت ملامحه تماماً، ومن الصعب معرفته، فقد غزت التجاعيد وجوههم، وبدت صلعة الرأس تلمع أو شعر الرأس والذقن وقد تلوّن بالشيب الأبيض، ومنهم من حافظ على شكله وحيويته، والقليل جداً من لا يزال يحتفظ بملامحه الشبابية. ما لفت انتباهي هو أن غالبيتهم قد أصبحوا رجال أعمال أو موظفين بمناصب إدارية مرموقة، البعض منهم وقد هاجر الهند إلى استراليا وأميركا وكندا، كما عرفنا أيضاً أن بعض زملائنا قد توفاهم الله، فمنهم من قتلته عصابة إجرامية، ومنهم من قتله السرطان، ومنهم من مات غرقاً.
أما صاحب الدعوة فقد تفاجأنا جميعاً، حيث أصبح من كبار السياسيين في بلده، تتحدّث عنه وسائل الإعلام، وتلاحقه الصحافة لأجل تصريح وأخذ صورة له، حتى أن حفل الزواج كان حفلاً استثنائياً من البذخ، وحضور كبار الشخصيات المدعوة من سياسيين ورجال أعمال .
هكذا هي الهند قد تغيّرت وتطوّرت بفضل الإرادة والإدارة وإصرار شعبها على النهوض ببلدهم إلى الأمام، وعدم المساومة على كرامتهم واستقلاليتهم وديمقراطيتهم، ومحاربة الاستبداد في عملية بناء مستقبل الوطن، ورفض الاحتكار في عملية صنع القرار. سبحان مغيّر الأحوال.
هذا لا يعني أن الهند قد أصبحت فعلاً من الدول الصناعية، ولا يعني أبداً أنها قد تغلّبت على جميع مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية مثل الفقر والبطالة والأمية، فالفقر لا يزال يفقر نسبة من الشعب الهندي، وملامح الدول النامية لا تزال واضحة في هذا البلد، فالمدن الهندية تحتاج إلى مواصلة الجهد حتى تتحوّل إلى مدن متحضرة ومتطورة، ولا يزال هناك عدد من التحديات والصعوبات التي يعاني منها المجتمع الهندي، إلا أن هذه المشاكل في اضمحلال، ومع استمرار العملية التنموية واستقرارها سينتقل هذا البلد تدريجياً إلى مصاف الدول الصناعية، وليس ذلك ببعيد.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"العدد 5188 - السبت 19 نوفمبر 2016م الموافق 19 صفر 1438هـ
أيها الكاتب .... السبب بأن الحكومة الهندية مع المواطن الهندي.
شكرا لك ياجعفر ياابن ديرتي ذكرتني بأيام الدراسة
عجبني اسلوب الكاتب عشت الاجواء بتفاصيلها
مادام صرنا نمجد رجال الدين ونقلد السياسين ونتضاهر علي ماميش شلون نتقدم او تتطور
بس الحقد دائما على الباب شدخل رجال الدين بابا الدين لو تمشون فيه صج جان بتوصلون لمصافي الدول الكبرى وخير دليل ايران شوف وين وصلت وينت واشكالك وين وصلوا فاقول استريح بس وباجر اذا ظهر المخلص بعد بتقول اليه لا تمجدون العلم والعلماء ناس تعبانة بس همها تنتقد لكن تبدع ما في ويع ويع على هالزمن الاغبر الي خلق علينا ناس من هالاشكال
اسلوب مشوق ومعلومات جميلة ..شكرا للكاتب
لقد أصاب الدكتور في نقل الواقع بين الماضي والحاضر بشكل بسيط وسلس شاكرا له جهده بنقل تجربة حياة واقعية كأنها كتاب يستقى منه العبر من الماضي للحاضر وشمل الحياة الاجتماعية والثقافية والطبية والاقتصادية ..فبارك الله بيك ويفوقك دائما.
موضوع جميل لكن انا موطن بحريني احس روحي غريب في بلادي
من وجهة نظري البسيطة أن ما يميزها هي كثرة الفرص وامكانية النمو ، بينما نحن في البحرين الفرص عندنا قليلة و متطلبات ريادة الأعمال كثيرة وبدل أن تدعم الدولة التاجر الصغير أصبحت تلاحقه من كل جهة إلى أن ييأس و يغلق مشروعه .
قبل يومين وصلني خبر عن دعم المستثمرين الخليجين في مدينة دبي حيث بقيت متحسراً على مشروعي الصغير الذي لا يغطي مصاريف الإيجار والرواتب .
طالبة
جميل طرحك تجارب حلوة تضيف لنا خبرة ومعرفة دائما مبدع في كتاباتك دكتور جعفر
تحليل رائع...
اخاف ان يأتي اليوم الذي نذهب فيه نحن للهند للعمل هناك
الله لايقوله
في تقرير اقتصادي
فحواه ان سنه 2050 ستكون الهجره عكسيه
وستاتي
الكاسر
من جد وجد ومن زرع حصد
اتمني ان تبني لك بيت في الجنة ( من خلال الاعمال الخيرية والله يزيدك من فضلة )
هذا إذا دخلت الجنة . وإلا حسن أن تبني لك بيت
في الدنيا .وإذا دخلت انت الجنة لو في هشة (كوخ)
بعيش! !
الصراحة الموضوع جميل و اسلوب الكاتب مبدع و مثير و محفز للقراءة نتمنى لكل الشعوب و منها الشعب البحريني بالنمو و الازدهار و الامن و الامان و ندعو الله ان يخلصنا من الظلم و الفساد