تيار المسلمات الثابتة في النخبة العربية مصاب بالذهول هذه الأيام. فهذا التيار لا يصدق ما يسمع من مواقف عنصرية متطرفة من الحزب الجمهوري الحاكم في الولايات المتحدة ضد العرب والعالم الإسلامي. ويزداد تعجب تيار المسلمات حين يسمع انتقادات قوية صادرة عن الحزب الديمقراطي المعارض في مجلسي الشيوخ والنواب ضد الحزب الجمهوري وسياساته في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. برأي هؤلاء انقلب الزمن وبات «صديق» العرب يقود حملة تحريض ضد العرب. ومن كان يصنف في «خانة إسرائيل» اتجه نحو الضد واتخذ مسافة من اللوبي الصهيوني.
المسألة ليست مسألة «صديق العرب» و«خانة إسرائيل» بل لها صلة أصلا بالتحولات التي تشهدها البنية البشرية للأحزاب الأوروبية والأميركية من تغيرات في تركيبة أنصارها في مؤتمرات الحزب أو في الدورات الانتخابية. فالأحزاب الأوروبية (العمال وحزب المحافظين في بريطانيا مثلا) محلية التكوين وتركز برامجها وسياساتها عادة على الوضع الداخلي أولا وثانيا وثالثا. ولا تختلف أو تنشق على المسائل الخارجية. فهذه المسائل الكبرى لها علاقة بمصالح الدولة العليا. ومصالح الدولة تقررها المؤسسات الثابتة، فهي التي تدير السياسات الخارجية والدفاعية والأمنية وتصيغ على المستوى الرسمي المعاهدات والاتفاقات والعقود التي تطال مختلف الشئون العامة، وهي في النهاية تحددها مصلحة الدولة الواحدة والمشتركة وليس مصالح الأحزاب. فالأحزاب في هذا المعنى هي أقرب إلى التفكير العملي والواقعي وتبتعد كثيرا عن الثوابت الايديولوجية التي تقوم على مسلمات لا تتعدل ولا تتغير باختلاف الأمكنة والأزمنة.
إلى أوروبا هناك الأحزاب الأميركية (الشمالية تحديدا) فهي أكثر براغماتية من الأحزاب الأوروبية وبعيدة كليا عن الايديولوجيات وأقرب إلى برامج «السماع» أو «الشفاه» فهي موضوعية إلى حد التلاشي العقائدي ولا تلتزم بموقف مبدئي أو مسلمة نهائية إلا إذا قرر مؤتمر الحزب في دورته السنوية اتخاذ هذا الموقف من دون ان يلزم كل الأعضاء والأنصار به.
الموضوع ليس مع العرب أو ضدهم، وان هذا الحزب يؤيد العرب وذاك يؤيد «إسرائيل». هذ الهم العربي هو آخر اهتمامات الناخب الأوروبي أو الأميركي وهو موضوع مهم بقدر ما يؤثر على مصالحه المباشرة أو على علاقاته الشخصية مع هذا الفريق أو ذاك، وغير ذلك يمكن أن نرى هذا الفريق اليوم مع العرب وغدا مع «إسرائيل» وبعده تنقلب المواقف ويتبادل الفرقاء مواقف بعضهم، فالموضوع ليس وقفا على ثوابت ايديولوجية بل تتحكم فيه المصالح. فالمصالح دائما ثابتة والسياسة متحركة. وفي العودة إلى الحزب الجمهوري وخصمه الديمقراطي ينسحب المنطق نفسه مضافة إليه التغييرات الديموغرافية التي يشهدها الحزب الجمهوري وأيضا الديمقراطي. الحزبان المذكوران يخضعان مباشرة إلى موازين القوى الداخلية. والكتلة الحزبية القوية والمتماسكة تستطيع أن تمارس نفوذها وتأثيرها على بنية الحزب وقراراته العامة من خلال قدرتها على قراءة التطورات الداخلية للدولة وربطها بالمصالح الخارجية. ومن يتمتع بالرؤية والوضوح هو الأكفأ في تمرير مطالبه الخاصة من خلال ربطها بمصالح الحزب العامة. وبهذا المعنى فإن مجموعات الضغط اليهودية (منظمات، هيئات، مجالس، مواقع مميزة في الجامعات والمصارف والإعلام) تملك الخبرة والتجربة التاريخية بحكم وجودها الأقدم زمنيا. وبسبب اكتسابها خبرات مميزة نالتها من خلال تجاربها المرة في أوروبا وأميركا.
فالمسألة ليست «شطارة» و«ذكاء» وإنما هي أصلا لها صلة بالمعرفة والاستفادة من فترة ظالمة لاقى خلالها يهود أوروبا الكثير من الاضطهاد بسبب فشلهم في تقديم أنفسهم أو التعريف بهويتهم. فالتمايز أو التمييز مسألة مرفوضة عادة ومن الصعب أن يتقبلها المجتمع بسهولة ولكنه يقبلها في حال فهمها واستوعب خصوصياتها. والمشكلة في بعض الجاليات العربية، وتحديدا أصحاب المسلمات الثابتة، يصرون على تقديم هويتهم وشخصيتهم بطريقة غير مفهومة وأحيانا يعرفون بأنفسهم بأسلوب استفزازي يثير الحساسيات والكراهية ويؤذي ليس تيار أصحاب الثوابت بل كل المسلمين... وتحديدا تلك الجاليات التي تعيش في الغرب بشقيه: الأوروبي والأميركي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 24 - الأحد 29 سبتمبر 2002م الموافق 22 رجب 1423هـ