بدأت بعثات التنقيب الآثارية الرسمية تعمل في البحرين منذ خمسينيات القرن الماضي، ومن ضمن أعمال التنقيب التي قامت بها تلك البعثات عدد من الدراسات المسحية لتحديد المواقع الأثرية. إلا أن العديد من نتائج تلك الدراسات المسحية لم تنشر بصورة مفصّلة، إضافة إلا أنه لم يتم التنقيب في جميع المواقع الأثرية التي تم تحديدها. هذا، ويعتبر كتاب Larsen «Life and Land Use in the Bahrain Islands»، الذي صدر في العام 1983م، العمل الوحيد الذي يوثّق غالبية نتائج عمليات المسح الآثارية. كما يعتبر هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لدراسة تطور المجتمع البحريني القديم، إلا أنه يحتاج إلى تطوير في ضوء نتائج التنقيبات الحديثة التي تلت دراسته.
يذكر، أن نتائج عمليات التنقيب والمسح التي تراكمت منذ خمسينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، وخصوصاً تلك التي ترتبط بالحقب الإسلامية، تعتبر ذات أهمية كبيرة في تحقيق وتنقية «الموروث التاريخي» الخاص بالحقب الإسلامية في البحرين، والذي يتوجَّب أن يخضع لعلية تحقيق جدّية. إن الدعوة لإخضاع الموروث التاريخي لعمليتي تحقيق وتنقيح في ضوء نتائج الأبحاث الجديدة، لا يقصد منها دعوة لإهمال أو تشويه التاريخ الموروث؛ بل إن عمليتي التحقيق والتنقيح تساهم في إبراز ذلك الموروث في صورة نظريات وحقائق علمية؛ وبذلك نضمن صيانة هذا الموروث من العبث به، أو إدخال مزيد من الشوائب المُستحدثة التي تشوّهه. هذا وتكمن أهمية تحقيق هذا الموروث لأنه يتغلغل إلى الفكر الجمْعي للجماعة.
التاريخ الموروث
والفكر الجمْعي
الموروث التاريخي، قد يكون تاريخ غير مكتوب، يتم توارثه عن طريق روايات سردية، أو قد يكون عبارة عن مجموعة روايات، وإن تم توثيقها كتابياً، إلا أنها لم تخضع لعمليات التحقيق. ومحتوى هذا الموروث غير ثابت، فقد يتغيَّر عبْر الزمن إما بالزيادة أو النقصان؛ فقد تضاف له روايات جديدة، أو قد يتم حذف أو إهمال روايات معيّنة، أو قد يتم تحقيق جزء منه، فيصبح هذا الجزء المحقق إما نظرية مبنيّة على أساس علمي أو حقيقة علمية مثبّتة خاضعة لعمليات النقد العلمي. وهذا التاريخ المتوارث، يتغلغل في فكر الجماعات، ويصبح جزءاً من الفكر الجمْعي؛ حيث يصبح جزءاً من المسلمات التي، في الغالب، يصعب تغييرها؛ لأنها، في الغالب، ترتبط بالذات أو الهوية؛ وبذلك، يصبح هذا الموروث الملاذ التي ترجع له الجماعة في البحث عن ذاتها. وهكذا، يصبح الخوف من إعادة تأويل هذا الموروث أو تحقيقه أو تغييره لأنه خوف مرتبط بالمساس بهويّة الجماعة نفسها.
غير أن هذه الروايات التاريخية المتوارثة، قد لا يكون لها أي معنى بصورتها الحالية، ولا تكتسب معنى حقيقياً إلا بعد تحقيقها ووضعها ضمن بنية معيّنة، إما نظرية مبنيّة على أساس علمي، أو حقيقة علمية مثبّتة. كما أن هناك خطورة في تركها دون تحقيق، فبالإمكان تشويه هذا الموروث، في محاولة لتفكيكه، وذلك بدسِّ روايات جديدة مشبوهة لكنها مبنيّة على أسس من هذا الموروث التاريخي، فتتقبلها العامة لا شعورياً، لأن تلك الأسس متغلغلة في اللاوعي الجمْعي العصيِّ على التغيير. من تلك الروايات، على سبيل المثال، القصص والأساطير التي ترتبط بمعاني أسماء المناطق المختلفة، وكيفية اشتقاق اسم منطقة ما، وهذه من القصص التي ترغب العامة في سماعها.
الانتماء المناطقي
والموروث المتناقض
ليس كل محتوى الروايات التاريخية المتوارثة يكون متجانساً، بل تجد أحياناً وجود روايات متناقضة أو متصارعة مع بعض. جزء من هذا الصراع أو التناقض ناتج من ارتباط الحضري بالمكان؛ فالحضري كالقبلي تماماً في عصبيته، إلا أن عصبيته للمكان الذي يعيش فيه. ومن الطبيعي أن تنقسم كل جماعة حضرية على نفسها، مهما كانت شدّة تجانسها، فكلما كبرت الجماعة وتوسعت في المكان فستبدأ جماعات فرعية منها بالانعزال مكوّنة مدناً وقرى وأحياء، وستبدأ كل جماعة فرعية بالارتباط بهذه المناطق الجديدة التي كوّنتها، وتبدأ أيضاً بتكوين تاريخ لهذا المكان، والذي يصبح جزءاً من التاريخ المتوارث، والذي يتغلغل في الفكر الجمعي لتلك الجماعات الفرعية؛ وبذلك، يتنامى عندها شعور الانتماء المناطقي والتشبّث بهذا الانتماء وربما التعصّب له.
وقد نتج عن ذلك الشعور تاريخ مستقل لكل قرية أو منطقة، وربما زعم البعض أن لكل منطقة أصلاً قبلياً مختلفاً عن الآخر ولهجة وتراثاً وثقافة مستقلة عن غيرها. هذا النوع من التقوقع الذي ذكره العوّامي بأنه تقوقع «داخل إطار شرنقي ضيّق إن تجاوز (الحارة) لم يتخطَ القرية، وما يؤسف له أشدَّ الأسف أن يتسرّب شعور (الشرنقة) هذا إلى طبقة المثقفين ممن يفترض تمتعهم بالوعي والبصيرة، والحس الاستشرافي، فيدركوا مخاطر سيادة مشاعر العزلة والتجزئة؛ وخصوصاً في هذا العصر» (العوامي 1996، الواحة العدد الخامس). وبذلك، ما لم يوثّق التاريخ المتوارث فسيخضع للانتقائية العشوائية التي تتم على أساس ميول ذاتية. والأمثلة في هذا المجال كثيرة، متمثّلة في الصراعات على حدود المناطق المتجاورة، أو صراعات حول أي المناطق كانت ذات شأن أكبر في الماضي.
تعميم التاريخ
والتحقيق المنقوص
ترتبط المناطق بأسماء تميّزها، قد تبقى الأسماء ثابتة عبر الزمن، غير أن المناطق لا تبقى ثابتة بل تتغيّر مساحتها، فربما تكبر أو تصغر عبر الزمن. وتعميم التاريخ يحدث عندما يرتبط تاريخ المنطقة بالاسم لا بالمنطقة الجغرافية نفسها، ففي حال تغيّرت مساحة المنطقة أو انتقل المسمّى إلى منطقة أخرى، يبقى التاريخ ثابتاً مرتبطاً مع الاسم لا المنطقة. على سبيل المثال، أن يعمّم تاريخ جزيرة المحرق، التي كانت تعرف باسم سماهيج في الماضي، على منطقة سماهيج الحالية التي تمثل قرية في جزيرة المحرق. كذلك منطقة البلاد القديم، التي كانت لها دلالة رمزية في الماضي، وهي بالتأكيد تختلف عن البلاد القديم بحدودها الحالية. يرتبط التاريخ بمنطقة محدّدة مكانياً وزمانياً، ولا يمكن الخلط في المسمّيات، ولا يمكن أن يرتبط التاريخ بالمسمّى، فالاسم قد يبقى عبر الزمن إلا أن حدود المنطقة تتغيّر عبْر الزمن.
الخلاصة: أن الموروث التاريخي، برواياته ومصطلحاته، هو جزء من الفكر الجمْعي، وهو مرجع تعود له الجماعات بحثاً عن ذاتها. ومثل هذا الموروث، الذي يتوجّب حفظه، لا يمكن تقديمه بصورته المتوارثة وبمصطلحاته ومسمياته الشعبية، بل يجب أن يوضع في إطار علمي، إما على شكل حقائق علمية، أو نظريات مبنيّة على أساس علمي، وذلك في ضوء نتائج الدراسات الحديثة. تكمن المشكلة أن الكثير من نتائج تلك الدراسات العلمية لا تصل إلى العامة، وعليه، سنخصِّص سلسة حلقات نتناول فيها نتائج التنقيب الآثارية في المواقع الإسلامية، وهي مادة أوّلية غنيّة يمكن أن يستفاد منها في إعادة ترميم الموروث التاريخي.
شكراً جزيلاً..