تستمر الروائية والكاتبة البريطانية زادي سميث (ولدت في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1975)، في إيجاد حالة من الافتتان بأعمالها، فمذ كانت طالبة في الجامعة، أحدثت ذلك الإرباك في الأوساط الأدبية قبل أن يروج عملها «أسنان بيضاء»، لتتدرَّج في مراحل من التكريم والأضواء الغامرة، بدءاً من العام 2002 حين أصبحت زميلاً في الجمعية الملكية للأدب، ومع مجيء العام 2003، تم إدراجها في «قائمة جرانتا» لأفضل 20 كاتباً شاباً، ليعود اسمها إلى القائمة نفسها العام 2013.
الفقر واحد من الأخطاء القذرة...
الوسط - جعفر الجمري
تستمر الروائية والكاتبة البريطانية زادي سميث (ولدت في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1975)، في إيجاد حالة من الافتتان بأعمالها، فمذ كانت طالبة في الجامعة، أحدثت ذلك الإرباك في الأوساط الأدبية قبل أن يروج عملها «أسنان بيضاء»، لتتدرَّج في مراحل من التكريم والأضواء الغامرة، بدءاً من العام 2002 حين أصبحت زميلاً في الجمعية الملكية للأدب، ومع مجيء العام 2003، تم إدراجها في «قائمة جرانتا» لأفضل 20 كاتباً شاباً، ليعود اسمها إلى القائمة نفسها العام 2013. وفي العام 2006 فازت بجائزة أورانج للأدب الروائي التي تمنح سنوياً للكاتبات، وتبلغ قيمتها 30 ألف جنيه إسترليني، ما يعادل 47 ألف دولار أميركي.
في العام 2010 انضمت إلى جامعة نيويورك أستاذة زائرة لبرنامج الكتابة الإبداعية، حيث قضت عاماً هناك. احتفى بها النقاد أيما احتفاء بفعل العوالم التي ظلت مخلصة لها، وهي عوالم ينأى كثير من كتَّاب جيلها عن الخوض فيها، من قبيل العِرق والتوغل في أمداء الطبقات.
في روايتها الخامسة «وقت متأرجح»، «المليئة بالتأمل»، بحسب تعبير رون تشارلز، في تقريره الذي كتبه لصحيفة «واشنطن بوست»، وتم نشره في عدد يوم الأربعاء (9 نوفمبر/تشرين الثاني 2016)، لم تبرح سميث الموضوعات المُحبَّبة إليها، وإن توغَّلت في مساحات أعمق بهدف ترك القارئ منشغلاً في حالات من التأمل المشار إليه: الصداقة، والمجال الحيوي الذي تبرزه في تناولها للثقافات المتنوعة، والتقاليد التي لا تخلو من تصادم، وهنالك الأثنيات بالضرورة؛ بمعنى آخر ثمة حضور للأديان والأفكار والنوازع والطوائف، يتجلَّى ذلك في روايتها الأولى «أسنان بيضاء». الموضوعات نفسها سيكون لها حضور عميق في روايتها الثانية «رجل الأوتوغراف»، وكذلك في «عن الجمال»؛ حيث يكمن الصراع بين الأطراف المتضادة... الإرهاب... العنف، وكذلك النزاعات بين الدول، الاستئثار، الاستبداد المهيمن على السلوك البشري.
كل ذلك التنوُّع في شخصياتها الروائية، عمَّقه انتماؤها المتنوع أيضاً؛ إذ ولدت من أب إنجليزي وأم جامايكية، وبعض وقائع رواياتها لم تكن بمنأى عن وقائع وحوادث وحوارات ظلت مختزنة عندها؛ لذا جاء توظيف العرقيات حاراً وصادقاً وصادماً أحياناً.
حتى في الطريقة التي تتهيَّأ فيها للكتابة، ثمة تراتبيات لا يمكن الإخلال بها أحياناً، وأكثر ما تظل حريصة عليه هو بحثها عن نسَب غامض، ولذلك مؤدَّيات تقودها إلى شبكة الإنترنت... المكتبات العامة... الأفلام الوثائقية، وحتى الشهادات المباشرة (الشفاهية)، وبين هذا وذاك: التهام الكتب: القراءة. هنا أهم ما كتبه رون تشارلز في «واشنطن بوست»، مع هوامش؛ علاوة على التوطئة.
الذاكرة راقصة عظيمة
هل هي مادونا؟ بيونسيه؟ أنجلينا جولي؟ مَنْ نجمة البوب التي ألهمت زادي سميث كي تبدع شخصية شهيرة، انحنى الكون لإرادتها في رواية «وقت متأرجح»؟ يكاد يكون السؤال الذي أبرزته الرواية الجديدة المليئة بالتأمل، الأكثر إثارة للاهتمام؛ حيث يتحرَّك هذا العمل عبر السنوات والمحيطات؛ من لندن ونيويورك إلى غربي إفريقيا. هي قصة في زمن واحد، من حيث حميميَّتها وعالميتها، بالقدر الذي تحوي الكثير عن موضوعة صداقة الطفولة، وكذلك المساعدات الدولية، كما هو الحال في افتتانها بمصير أمٍّ عاطلة عن العمل، وكذلك في مقاربتها لسلْطة مطلَقة لمغنّية عالمية.
سميث، التي هزَّت المؤسسة الأدبية حين كانت طالبة في الكلية بمخطوط جزئي لروايتها «أسنان بيضاء»، تفتتح روايتها الخامسة «وقت متأرجح» على أنغام التنصّت لإصبع القدم، تلك التي تُستوحى من الكوميديا الموسيقية التي أبدعها الأميركي فريد أستير في العام 1936. لكن خطاً قاتماً وعميقاً يتداعى تحت ذلك اللحن السعيد. في مقدمة الرواية، حيث «الراوية» شابَّة تم طردها من وظيفتها، تسلِّي نفسها بتصفُّح المحرِّك الشهير «غوغل»، بحثاً عن مقطع فيديو قديم لعرض «Bojangles of harlem» لأستير (فريد أستير ممثل ومغنٍّ وراقص أميركي في مسرح برودواى. ولد في 10 مايو/أيار 1899، بأوماها، نبراسكا، بالولايات المتحدة الأميركية، وتوفي في 22 يونيو/حزيران 1987، في لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا. مثَّل خلال حياته المهنية التي استمرت 76 عاماً في 31 فيلماً موسيقياً، ومن أشهر من عمل معه من الفنانات جنجير روجرز)، وسرعان ما تكتشف أن الذاكرة يُمكن أن تكون مرنة مثل راقصة عظيمة. قالت: «أنا بالكاد أفهم ما كنا ننظر إليه». هناك رقصة أستير في الخارج؛ حيث تتذكَّر ظلاله تماماً كما تتذكَّر عندما رأت للمرة الأولى الرقم كما ترى طفلاً. ولكنها الآن تنتبه مع اشمئزاز كما لو أن أستير بوجه أسود: «عيون متحوِّلة، قفازات بيضاء، وعبوس الشخصية الرئيسة»، وفجأة يبدو أداء أستير السحري مَشُوباً بالمبالغات العنصرية.
ظِلَّانا البُنِّيان متطابقان تماماً
في هذا السياق، يخدم الرواية تحقيق التنافر في المشاهد والحالات تلك، باعتباره مقدمة لهذه القصة المعقَّدة التي من شأنها أن توفِّر حزْمة من التجلِّيات الباعثة على القلق، وهي تتحرَّك على امتداد مسارين زمنيين بالتناوب. يأخذنا الأول ارتداداً إلى أيام طفولة «الراوية» في العام 1982 عندما كانت تعيش في شمال غربي لندن، هناك حيث نشأت المؤلفة أيضاً. إنها ابنة أب أبيض قنوع وحادٍّ في طبْعه، وأم عاطفية كثيرة الغياب عن البيت، تنحدر من جامايكا، ولديها تصميم كبير للحصول على شهادتها الجامعية، توجُّهاً نحو الدفاع عن قضية العدالة الاجتماعية. تريسي هي أفضل صديقة لـ «الراوية»، فتاة التقتها في حصة الرقص. «ظلَّانا البنيَّان متطابقان تماماً».
تدوِّن سميث ذلك الانجذاب الذي استمر لسنوات، مع آلام مشُوبة بالحنين إلى الماضي؛ حيث يحضر الظُرْف والشفقة في آن. ثمة مشاهد من المراحل الدراسية تشكِّل مشاهد صغيرة من القَصِّ الذي يُوحي ببراءة الطفلة، يتم نسْجها بدقة وتأتي في صيغة تكتنز بسخرية لا يُحسنها إلا الكبار. وإذا كان أسلوب «وقت متأرجح» أقل فرحاً من عملها السابق، فلأن اهتمام سميث ينصبُّ على ما تلتقطه من ملاحظات على النعمة التي تتأتى من الصداقة، بتلك الدقة التي تبدو وكأننا لم نقف عليها في أي وقت من الأوقات. ففي حين أن الراوية تجدُّ في زمنية ما بين المرحلة الثانوية وصولاً إلى الكليَّة، تتمسَّك تريسي - الموهوبة والجريئة - بحلمها في بلوغ مراتب عليا، وكأنها تطمح إلى ملامسة النجوم، وبين هذا وذاك، ثمة إصرار عندها يذوي شيئاً فشيئاً. هي والراوية تنجرفان بعيداً لفترات طويلة، ولكن مع بزوغ كل رؤية جديدة تُعيد إحياء تلك الأحداث والمشاهد المشوَّشة، بحيث لا يتبدَّى لنا بأن زمناً من أزمنة تلك الأحداث قد تسلَّل بعيداً من مسار الأحداث؛ فيما مشاعرهما القديمة المُترعة بالمودَّة تنمو وهي معقودة بالغيْرة وحتى الازدراء.
الفقر واحد من الأخطاء القذرة
ثمة ربْط بين هذه الذكريات يُظهر لنا قصة مُستجدَّة ترتبط بعمل «الراوية» كمساعدة شخصية لآيمي، واحدة من تلك المشاهير واسعي الانتشار دولياً، وكما تكتب سميث في وصفها: «غير الخاضعة للسيطرة من قبل الزمان والمكان». بالطبع، يكتظ رفُّ الروايات - الرومانسية والمتهكِّمة - بالأعمال التي تتناول قصص فائقي الثراء، ولكن «وقت متأرجح» قد تكون واحدة من بين الروايات الأكثر إدراكاً من بين ما قرأت من حيث تناولها حيِّز التشويه المتمخِّض عن الشهرة والثروة.
محاطة الرواية بالمعالجات التي تتأرجح في الأحداث قبل التأرجح الذي ينتابها في ثنايا العمل، بإزالة كل عقبة تعترض طريقها؛ حيث تتجسَّد في آيمي الطفلة التي اعتادت وجود كل ما تهفو إليه من رغبات وبشكل مُتخم أحياناً، متطلِّعة إلى الإشادة بها عن كل عمل مُلفت ومحمود، كما هو الحال مع الاحتفاء بكل فكرة.
على رغم أنك ستستكشف ومضات عن آيمي من خلال الصحف ومحلات البقالة التي تبرز في الرواية، إلا أن كل ذلك ليس مفتاحاً للحل الغامض فيها أو الألغاز التي تكتظ بها. تكتب سميث بخفة دم، من خلال أسلوب يحافظ دائماً على ما يمكنها إنكاره أو التملُّص منه، ويُعدُّ كل ذلك الأكثر اهتماماً وقدرة على التأثير الكبير وغير المألوف الذي يمارسه الفنانون والفنانات على ثقافتنا.
هي دعوة لنا لنكون ضمن العالم الداخلي للمشاهير، تشعر «الراوية» الشابة بالافتتان حتى وهي متمسِّكة بحسِّها النقدي. لا يمكنها أن تقدِّم أي مساعدة إلا أنها لا تفوِّت فرصة أن تندهش، مع حال من التوازن الذي يتمثَّل فيه الحسد وحال من التعالي. «ما الذي كان يجب أن يكون عليه الذين يرغبون بالعيش في عالم يتم فيه تبديل الحقائق؟ الحقائق التي تتحرَّك أو تختفي أحياناً، تبعاً لحالتك المزاجية» بالنسبة إلى امرأة شابة ثنائية العِرْق لا مال لديها، لن يكون العالم على شفا أن يكون طيِّعاً لها.
تصف «وقت متأرجح» الكثير مما تبذله آيمي من جهود لبناء مدرسة للبنات في بلد فقير يقع في غربي إفريقيا. على رغم أن سميث لا تلعب الدور الذي تسعى إليه آيمي جاهدة بسذاجة من أجل الضحك؛ الأمر الذي ينتج عن مثل ذلك المشروع حالة كلاسيكية من الإيثار المضلِّل القائم على الاختيال. «إلى آيمي»، توضح الراوية «كان الفقر واحداً من الأخطاء القذرة في العالم، واحد من بين العديد من الأخطاء، والتي يمكن تصحيحها بسهولة، إذا أحيط الشعب علماً به، بذلك التركيز الذي يستحضر كل شيء». وإذا ما تمكَّنت من التفرُّد ببعض خطوات الرقص الإفريقية بامتداد الطريق، حينها سيكون ذلك هو الانتصار، أليس كذلك؟
لدى آيمي، الطقوس الروحية التي كانت قادرة إلى حد ما على القيام بتجربتها من تلقاء نفسها» بحيث إنها لم ترهب من الانخراط في عمل من شأنه تقديم مساعدة لقرية مسلمة فقيرة، لا تعرف عنها شيئاً «وجدت قصتها الخاصة المتمثِّلة عالمياً».