سياسيون لم يدرسوا السياسة... اقتصاديون لا يهتمون بأسعار النفط... اجتماعيون بطبعهم، وبيدهم هيكلة الرأي العام، هم الناس العوام والقاعدة والجماهير... المتهمون بالاندفاع العاطفي حينا والجهل حينا آخر، يمتلكون لغة سياسة خاصة، من مصطلحاتها «حقي»... «كرامتي»... «حريتي الفكرية»... «استقلالي»... «حاجات أسرتي»... «عيشي»... «راتب عملي»... وغيرها، وسواء قلت إنّ السياسة «فنّ الممكن» أم لا، فذلك ليس مهما فالمهم أن تكون «فنا للتخلص من الفقر والحاجة» والأهم هو «ألا تغتصب حقي في التفكير وحقي في إبداء الرأي وحقي في تقرير موقفي تجاه القضايا التي تلامس حياتي، وأن لا يكون إذلالي وظلمي فنّـا ممكنا».
إنّ الإنسان العادي يفهم السياسة في إطار ما تحققه له من عزة وكرامة وعيش كريم وأمنيات مشروعة، ولا تكون كسرة الخبز بالنسبة إليه أمرا سلبيا إلا إذا كانت تصله عبر نفق من الشعور بالظلم والحرمان، فمجتمع الإخاء الذي صنعه أعظم رجل في تاريخ البشرية محمد (ص) قد جمع قلوب المهاجرين والأنصار على الرضا بالعيش معا بكرامة وعزة في ظل موازنة حقيقية وموازاة بين هؤلاء وهؤلاء، بعيدا عن الشعور بالظلم أو الغبن.
وحين تتحدث للإنسان العادي عن «استعجال الخطوات السياسية» أو «القفز على المرحلة والواقع»... وغيرها مما يردده السياسيون، فسيأتيك الجواب واضحا 'خذ السياسة كلها وأعطني حقي.. اكتب ما تشاء في الصحافة... وقل ما تشاء في التلفاز، وصنّـف نفسك مواليا للسلطة أو معارضا لها أو محايدا بين تلك وتلك، لكن في النهاية لا تقل لي لا تستعجل نيل حقك، فكما أنّ حقك محفوظ لك فحقي أيضا يجب أن لا يسلب ويجب أن لا تستمر دمعة مهدي لتكن همّا في حياتي وغمّا حتى اللحد.
السياسيون إن وجهوا القاعدة، أو القاعدة حين توجه السياسيين، فينبغي أن يكون هدف كليهما واحدا وهو أن يصلا في نهاية المطاف إلى عزة وكرامة كل إنسان في الموطن الكبير دون تمييز عرقي أو طائفي بين جميع الألوان الدائرة تحت مظلة الحكم، لتصبح السياسة عند الجماهير ممرا ووسيلة للوصول إلى الهدف المشروع.
البحرين نموذجا
وفي ظل الصخب السياسي الدائر في البحرين حول الدستور والحياة النيابية، قد تتحدث للناس عن «البرلمان» لكنهم سيسألونك «ماذا سيحقق لنا؟ هل هي مجرد «بهرجة» إعلامية أم إنها محطة حقيقية لنيل الحقوق والتأكيد على الواجبات؟»، وبالتالي يكون للقيادات السياسية في الحكم والمعارضة دور المدرس الذي يشرح المشاريع والقوانين والمواقف للعوام ويترك لهم الخيار الحر دون أن يضربهم بالعصا!
حين تلتقي بالمواطنين في المحرق وسترة، والبديع والدراز، كان الذين حملوا آمالهم وتطلعاتهم إلى صناديق الاقتراع في انتخابات المجلس البلدي يتساءلون عن المجلس وأعضائه، «انتخبناهم فأين هم اليوم؟ ماذا فعلوا لنا؟ وماذا طبقوا من مشاريع برامجهم التي وعدونا إياها؟»، ولم يكن ذلك استعجالا أو سذاجة منهم كما يحلو الوصف لبعض السياسيين، غير أنّ المواطنين يريدون أن يروا شيئا ولو واحدا من همومهم يتحطم ويتلاشى بفعل تصويتهم لهذا أو ذاك، فلم يعد ملموسا لديهم ما كان يتردد من وعودٍ أيام الانتخابات ولا حتى أغنية (انتخب للبلدية) أصبح لها صدى اليوم!، ولم يعد مقنعا لهم القول إنّ المجلس تمّ تأجيل انعقاده، بالمعنى الذي يفهمونه، أي تمّ تأجيل حل الكثير من المشاكل والقضايا العالقة، كما أنهم لا يهتمون بالدواعي السياسية التي دفعت السلطة الحاكمة لتأجيل انعقاد المجلس، لأنهم كما يعبرون «شبعنا من الكلام... ونريد حلولا ملموسة... على أقل التقادير أن يأتي النائب البلدي ليتعرف على حاجيات المنطقة أو الحيّ الصغير كما هو في موضوع طلب إنشاء «مرتفعات» في هذا الشارع أو ذلك الطريق، بدلا من استجداء وزارة الأشغال عبر (بريد القراء) في الصحافة!».
ولعلّ التباطؤ في عقد المجلس البلدي وعدم التسريع في إنجاز بعض وعود نواب البلدية للمواطنين، ألقى بضوئه على موقف الكثير منهم تجاه المشاركة في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول، بغض النظر عن الانتماء السياسي لهذه الجمعية أو ذلك التيار.
بينما كان العديد من المواطنين يشيدون بـ «الديمقراطية» و«البرلمان» وغيرها لا لأنهم يعرفون ما وراء هذه المصطلحات بل لأنهم يريدون التعلق بكل «قشة» قد تنقذ الأمل.
رفض «الطائفية»
حين تلتقي مع المواطنين تتلمس حرصهم الشديد على الاستقرار والأمن الاجتماعيين، وتكاد لا ترصد «الحس الطائفي» لديهم، وهو ما تتلمسه في مواقع أخرى قد أحكمت السلطة أو الإعلام أو بعض المؤسسات المدنية الأهلية أو بعض المتعصبين القبضة عليها، فممارسة الطائفية محل رفض شعبي عارم، وإن كان البعض يريد أن يبرر «التمييز الطائفي» لدواعٍ سياسية مختلفة أو لخصوصية ما تتمتع بها البحرين دون الدول الخليجية والعربية الأخرى، فإنّ ذلك محل عدم تقبل من المواطنين باختلاف مذاهبهم الدينية والفكرية والسياسية وهم يتقلدون تاريخ الأخوة والإخاء بينهم.
الحاج عبدالرحمن المناعي (61 عاما) من مدينة المحرق وممن شهدوا مختلف المراحل المعاصرة كان يصر على رفض الطائفية ويقول متنهدا «نحن لا نفرق بين سني أو شيعي، كلنا أخوة ونحن نرفض أي ممارسة من هذا النوع حتى لو كانت من علماء الدين، إنّ ولدي له الكثير من العلاقات الحميمة مع أخوتنا الشيعة وأنا أشجعه عليها».
كما انّ تقسيم الدوائر الانتخابية لم يحض بتأييد واسع من قبل المواطنين بمختلف أطيافهم، وحتى إن تجاوزنا «تشييع» هذه المنطقة أو «تسنين» منطقة أخرى، فإنّ المناعي مثلا يجد في تحديد شرط وجوب أن يكون المرشح أحد سكنة المنطقة المترشح فيها «مانعا له من ترشيح نفسه في إحدى مناطق المحرق التي يمتلك فيها شعبية كبيرة غير أنه يسكن منطقة قلالي».
وقس على ذلك الكثير من النماذج الأخرى بين المواطنين، ولعل السؤال المشروع هنا «هل ينبغي أن يكون القانون رهن الرغبات المشروعة للناس أم يجب على الناس أن يقبلوا القانون مهما كان؟!».
الاهتمام بالسياسة
أن لا تكون سياسيا على المستوى الأكاديمي أو بحسب التصنيف المجتمعي فذلك لا يعني عدم اهتمامك بها أو عدم كونك «سياسيا» يمتلك رأيا في خضم ما تعيش من حوادث وقضايا، ولطبيعة ارتباط السياسة بأوضاع الناس اليومية ولخصوبة الوضع السياسي في البحرين منذ أحداث التسعينات، تجد الغالبية من المواطنين بمختلف أطيافهم مهتمين بالسياسة خصوصا على مستوى القرارات المصيرية، حتى أنّ صالة النادي الأهلي وهي أكبر محل ضمّ ندوة سياسية لم تتسع لاستيعاب الآلاف من المواطنين يوم 14 فبراير/شباط من العام 2002م وهو يوم ولادة دستور 2002، ما دفع بعض الكتاب الصحافيين إلى انتقاد هذا الاهتمام الكبير بالسياسة من قبل الشعب داعيا إياه للاهتمام بقضايا البيئة والزراعة وغيرها!، ولعلها دعوة لاقت الاستغراب من قبل المواطنين حينها وحسبوا أنّ لها أهدافا سياسية مجهولة، قد يكون من بينها خشية تأثير الجماهير أو القاعدة على الرموز السياسية وقيادات المعارضة في اتخاذ القرارات السياسية.
الآخرون في بلدان أخرى يتمنون من شعوبهم الاهتمام ولو بقدر بسيط بالسياسة، والمعارضة في الكثير من البلدان المجاورة تفتقد الدعم الشعبي المباشر، لذا يرى المواطنون الإيجابية في اهتمامهم بالسياسة على قاعدة ارتباطها بحاجياتهم وأمنياتهم، بل لولا هذا الاهتمام لما حصلنا على 98,4 من أصواتهم يوم الميثاق.
بين «المبدئية» و«فن الممكن»
وإن كان بين «المبدئية» و«فن الممكن» جدلٌ دائرٌ في أوساط السياسيين، فإنّ الناس ميالون بطبعهم وانتماءاتهم الدينية والفكرية إلى «المبدئية» في الموقف واتخاذ القرار، فهم لا يمرون على ما تعرضوا له من الأذى والظلم نتيجة مواقفهم الوطنية النضالية موقف «مرور الكرام» كما هو الموقف الذي يرجحه ويتبناه بعض السياسيين أحيانا، إلا أنهم أيضا - وخاصة في بلدنا الحبيب البحرين - متسامحون إلى درجة الذوبان في الحاضر ونسيان الماضي بشرط أن يكون الحاضر جميلا يضمن للجميع حياة العدل والأمن والاستقرار، وما إن يفقدوا هذا الحاضر الجميل حتى يعود الماضي المظلم ليبسط ذراعيه على ليلهم ونهارهم وتفكيرهم ودوافع تأييدهم أو رفضهم لهذا المشروع أو ذلك القرار.
من أسرة تحرير «الوسط
العدد 23 - السبت 28 سبتمبر 2002م الموافق 21 رجب 1423هـ