في 28 سبتمبر/ ايلول 1961 كانت الأمة على موعد مع حظها العاثر. ففي صباح ذلك اليوم بثّت الاذاعات خبر الانفصال. انفصال سورية عن مصر.
الصدمة لم تكن قليلة. هزت الوجدان وحركت المشاعر ولم يرد في ذهن الجماهير ان الصدمة ستكون البداية. بعدها ستأتي الصدمة الكبرى... هزيمة 1967.
كان من الصعب على المارد العربي ان يتقبل الأمر. الصدمة الاولى طاولت مشروع الوحدة والثانية طموح التحرير. ونجح جمال عبدالناصر في تجاوزها ولكن القدر كان الأقوى فتوفي في 28 سبتمبر في العام 1970.
رحل «العملاق الأسمر» وبقي السؤال:
من قرأ عبدالناصر؟ والأهم: ماذا قرأ عبدالناصر؟
كثيرون اطلعوا على ما كتب وقال. وقليلون لا يعرفون مشروعه ونموذجه التاريخي. كان مثاله صلاح الدين الايوبي الملقب بالناصر صلاح الدين.
والسؤال: هل قرأ عبدالناصر الناصر صلاح الدين؟
الاجابة تتطلب بحثا في التاريخ.
التاريخ يشير إلى أن صلاح الدين حين أرسله قائده العسكري عمادالدين زنكي من بلاد الشام إلى مصر في عهد الدولة الفاطمية، اكتشف الشاب الصغير أهمية مصر ونقاط ضعفها. واكتشف انه من دون مصر لا تستطيع بلاد الشام تحرير فلسطين من احتلال الفرنجة (الممالك الصليبية). قرر صلاح الدين العمل على تغيير الحكم في مصر واعادة ارض الكنانة إلى الخلافة العباسية. والطريق إلى بغداد يمر في دمشق. وبدأت معركة صلاح الدين في بناء مصر وتحصين جبهتها الداخلية. واكتشف نقطة ضعفها: البحر. فعمد إلى دقّ الاسفين بين تجار المدن الاوروبية وقادة ممالكها فأغرى تجار البندقية وغيرها فك ارتباطهم بقادة الممالك السياسية. فالتجار يملكون السفن والمال وقادة الممالك يحتاجون إليها فإذا أقفلت موانئ الشرق (المشرق العربي) امامهم سيدعمون الممالك بأساطيلهم وأموالهم. وهكذا نجح صلاح الدين في شقّ صفوفهم.
نظر الناصر إلى محيط مصر فوجد أن البحر الأحمر هو نقطة الضعف الثانية. فهذا البحر يشرف على بابين: السويس والمندب. والفرنجة أقوياء بحرا وضعفاء برا. وكان لابد من اقفال الاحمر من بابيه فأرسل صلاح الدين قواته إلى اليمن وأقام دولة موالية تحمي عمقه الاستراتيجي.
حقق صلاح الدين نصف مشروعه (تحصين مصر، وتقليل مخاطر البحر) وبقي نصفه الآخر: بلاد الشام.
آنذاك كان عماد الدين زنكي (القائد العسكري الكبير ومؤسس حروب التحرير) ملّ الانتظار.
كان يستصرخ صلاح الدين ويستعجله والناصر يستمهله حتى تكتمل الصورة وترتسم المعالم.
ورحل عماد الدين وفتحت ابواب دمشق امام الناصر. وفي تلك اللحظة أخذ يخطط لتحرير فلسطين. فالعدة اكتملت وبقي عليه تجهيز القوات لبدء المعركة وهكذا كان.
بدأت الحرب بالمناوشات إلى ان كانت موقعة حطين. ومن حطين مال الميزان وبدأت كفة القوى ترجح شيئا فشيئا لمصلحة المسلمين. وتوفي صلاح الدين قبل نهاية المعركة الا ان الحرب استمرت وطرد الفرنجة.
عبدالناصر سار على طريق الناصر. قام بتحصين مصر وارتكب خطأ اعدام سيد قطب فاهتزت الصورة... قام باعلان الوحدة المصرية السورية فحدث الانفصال. قام بارسال جيشه إلى اليمن داعما الانقلاب الجمهوري فتورط في معارك جبلية لم يحسب حساب وعورتها. اكتشف خطورة الغرب (البحر) لكنه لم يدرك أهمية نقطة الضعف الجديدة: الجو. ولذلك قال عبدالناصر قولته الشهيرة بعد الهزيمة «انتظرناهم من الشرق فجاؤوا من الغرب». قرأ عبدالناصر جيدا الناصر صلاح وسار على خطاه وقلده في مختلف سياساته وتكتيكاته... لكنه فشل في تحقيق الهدف الاستراتيجي: تحصين الداخل، الوحدة، تقليص مناورات العدو بحرا (وجوا).
هل لم يكن في الامكان اكثر مما كان؟ سؤال واقعي في ظروف دولية مختلفة وضمن شروط تاريخية مغايرة. في ايام صلاح الدين كان العالم الاسلامي يعيش لحظات صعود بعد لحظات هبوط. وفي ايام عبدالناصر كان العالم العربي يعيش لحظات هبوط بعد لحظات صعود.
عبدالناصر قرأ الناصر قراءة صحيحة الا أن ظروفه كانت مختلفة وادواته مختلفة وعناصر الضعف عنده اكثر من عناصر القوة.
حاول عبدالناصر واجتهد، ومن اجتهد واخطأ فله حسنة.
رحمه الله
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 23 - السبت 28 سبتمبر 2002م الموافق 21 رجب 1423هـ