يحيلنا الأركيولوجي أستاذ كرسي اليونسكو لحماية الممتلكات الثقافية والسلام بجامعة نيوكاسل، بيتر ستون في مقالته بمجلة «BBC Knowledge» المنشورة في عدد أغسطس/ آب 2016، وترجمها عبدالله بن محمد في العدد 108 من مجلة «الدوحة»، إلى ما أحدثته الصراعات في الشرق الأوسط من دمار مروِّع للآثار التاريخية، وهو بذلك يحيلنا في الوقت نفسه إلى الدمار الذي طال ذاكرة المنطقة، وهي ذاكرة تختزن آلاف السنوات من المساهمة في المنجز الحضاري والمديني الإنساني.
قد تكون الحقبة التي نشهدها الأكثر كثافة في تدمير الآثار، بحكم وقوعها تحت سيطرة الميليشيات والمنظمات الإرهابية الأصولية تحديداً، تلك التي ترى الفن مقابلاً ومزاحماً للإله الواحد الأحد. هكذا تتفتق العقلية الظلامية عن تبرير للمجازر التي ترتكب ضد تلك المنجزات إلى جانب المجاز والمذابح التي ترتكب ضد الإنسان والبشر العزَّل.
يطرح ستون في مقالته طرقاً للحد من الخسائر في الكنوز التاريخية «مستقبلاً»، وهي رؤية تكاد تكون بمعزل عن حقيقة التمدُّد الأصولي الذي سيطر في وقت من الأوقات على مساحات تصل إلى 90 ألف كيلومتر مربع.
كما يحيلنا بيتر ستون إلى حوار في صلب وزارة الدفاع تم في 29 يناير/ كانون الثاني 2003، أي قبل شهرين فقط من غزو قوات التحالف الغربية بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة العراق لإسقاط النظام. حيث يشير إلى أن البداية لم تكن مبشرة ومن خلال ذلك الحوار: «هل توجد بعض الآثار التي ينبغي علينا تجنبها هناك؟ نعم، أعرف رجلاً، وسأتصل به خلال عطلة نهاية الأسبوع». كان ستون هو الرجل المقصود «الشخص الخطأ - كنت أعرف القليل عن الآثار بالتفصيل هناك - في الوقت الخطأ، كانت معظم قوات التحالف قد دخلت فعلاً (أرض المعركة)، حيث الأهداف محددة والخرائط جاهزة (دون التنصيص على أماكن تواجد المتاحف والمكتبات والمحفوظات أو المواقع الأثرية)».
اتفاقية لاهاي 1954
حدَّد ستون وزملاؤه 36 موقعاً «من العصر الحجري القديم إلى التاريخ الإسلامي، من بين أكثر المواقع أهمية بهدف حمايتها من الدمار». يشير ستون في مراسلاته للجهات المعنية إلى ضرورة تقيّد قوات التحالف بالقانون الإنساني الدولي، لكنه تناسى أن القوات تلك لم تُراع التقيد بالقانون فيما يتعلق بالبشر، فمن باب أولى عدم التقيد به في الجزئية التي تتعلق بالحجر. الغزو نفسه وبإجماع قانونيين دوليين كان انتهاكاً للقانون الدولي نفسه. يذكِّرنا بيتر ستون بأنه لسوء الحظ لم تصادق الولايات المتحدة وبريطانيا على القانون الدولي الإنساني الأساسي ذي الصلة (اتفاقية لاهاي للعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، وعلى البروتوكولين الملحقين بها لعامي 1954 و 1999).
يوضح ستون بأنه على رغم التحذيرات التي رفعها هو وزملاؤه إلى الجهات الدولية المعنية، إلا أن عمليات نهب المتاحف والعديد من المؤسسات الثقافية الأخرى ظلت مستمرة، منوهاً إلى القرار الذي اتخذته قطاعات في الجيش العراقي بالدفاع المستميت عن عدد من المواقع، إضافة إلى «شجاعة موظفي تلك المؤسسات الذين رفضوا التقيد بالأوامر المباشرة من صدام حسين». من خلال تحويل أو إخفاء ما تمكنوا من إخفائه ريثما تستقر الأوضاع.
بعد أن يشير ستون إلى أن الجيش العراقي لا يتحمل وحده مسئولية ما لحق بقطاعات ومواقع أثرية عديدة من أضرار ونهب، وإدخال الساسة العراقيين ضمن المسئولية بعجزهم عن فهم مكانة الملكية الثقافية والتراثية، وخصوصاً في ظل واقع التحالف الغربي، وما يمكن أن يتم من استهداف وضرب لعلامة من علامات ثقافته وذاكرته ووجوده.
الممارسات العسكرية الدنيئة
في الاستعادة التاريخية وبما يشبه المراجعة يضعنا ستون أمام حقيقة أن التراث الثقافي «سيكون عرضة للتخريب والدمار خلال النزاعات المسلحة»، إلا أن أصحاب النظريات العسكرية، من سون تزو (ولد في العام 496 قبل الميلاد، وعاش حتى العام 551 قبل الميلاد، وذاع صيته بسبب عبقريته العسكرية التي اشتهر بها)، إلى فون كلاوزفيتز (جنرال ومؤرخ حربي بروسي. ولد العام 1780 في ماغدبورغ الألمانية، وتوفي العام 1831 في بريسلاو. من أهم مؤلفاته كتاب «من الحرب». تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثراً عميقاً في المجال العسكري في البلدان الغربية) «يؤكدون أن السماح بتدمير الممتلكات الثقافية لعدوك - أو ما هو أسوأ من ذلك، تدميرها عن قصد - هو من الممارسات العسكرية الدنيئة، لأن ذلك قد يشكِّل تحدياً لحكم السكَّان الأصليين، ويمثِّل الشرارة الأولى للصراع المقبل».
يستعرض ستون عدداً من الاتفاقيات الدولية في هذا الشأن، كما يستعرض جانباً من الممارسات التي حدثت ما قبل احتلال العراق، الضربات الجوية، وعمليات النهب التي طالت معظم المتاحف، وعشرات الآلاف من القطع الأثرية التي تم تهريبها إلى الخارج، ومازال معظمها معروضاً في المتاحف. بكل ذلك، يضع ستون العراق كنموذج للدمار الذي لحق ببنية آثاره، وأنه خير دليل مأسوي على مثل ذلك الاستهداف، وخصوصاً في زمن الصراعات والحروب. ما الذي يعمِّق من تلك الحالة ويجعلها أمراً عادياً؟ لأنها في أوضاع مثل تلك - وهو الأمر الأساس - «في بعض الأحيان لا تعتبر الحماية من الأهمية بمكان حتى تدرج في التخطيط المسبق للصراع،وفي أحيان أخرى ينظر إلى الآثار كغنيمة حرب مشروعة، أو يصنّف دمارها ضمن الأضرار الجانبية فقط (...)».
تطوير عقيدة الممتلكات الثقافية
من بين الخطوات الإيجابية التي يبرزها ستون هنا، ما اتخذته اليونسكو، وما يسمى بـ «الدرع الأزرق»، المنظمة التطوعية التي يشار إليها عادة بأنها المعادل الثقافي للصليب والهلال الأحمر»، حيث يدرس الناتو تطوير عقيدة الممتلكات الثقافية، فيما تسعى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى إعادة إنشاء وحدات مماثلة لفرق الآثار.
هناك تطور آخر، حدث في هذا المجال تجلَّى في إعداد قوائم للكنوز الثقافية في العراق وليبيا ومالي وسورية واليمن «ساعدت بشكل واضح على حماية مواقع تراثية مهمة في ليبيا».
في نهاية المطاف، يظل التراث الثقافي مستهدفاً، كما يرى ستون، مذكِّراً إيانا بما حدث في موقع «تدمر» وما فعله تنظيم «داعش» في العام 2015، ما دفع الحكومة البريطانية إلى إنشاء صندوق للحماية الثقافية، والتأكد من أن الأموال ستنفق على مجالات استراتيجية ومحكمة، من دون إغفال أهمية التصديق على اتفاقية لاهاي.
خريطة ممارسات البربر
من بين التقارير المهمة التي تضعنا أمام خريطة التدمير للمواقع الأثرية التي هي ملْك إنساني، وليس لبلد بعينه، تلك التي مارسها البرابرة والمغول الجدد، التقرير الذي نشره موقع «سكاي نيوز»، بتاريخ 24 أغسطس/ آب 2015، بدءاً بالممارسات الأولى، وصولاً إلى ممارسات برابرة ومغول القرن الواحد والعشرين (داعش وملحقاتها)؛ حيث يبدأ التقرير بالفايكنغ في أوروبا، الذين قاموا بعمليات سلب ونهب واسعة في أرجاء أوروبا، حيث لم يتركوا بلداً يضج بالحياة إلا والغراب ينعق فيه ويلفه الخراب، مروراً بالمغول وما أحدثوه في بغداد العام 1258 بقيادة هولاكو؛ إذ كان من بين أبرز ما تم تدميره في عاصمة الخلافة مكتبة بيت الحكمة، وممارسات طالبان في العام 1998، حين عمد منتسبوه إلى تدمير رؤوس تماثيل بوذا في وسط أفغانستان، باعتبارها أصناماً، ليكملوا جرائمهم في مارس/ آذار 2001، بتدمير التماثيل باستخدام الألغام، وصولاً إلى «داعش» وجرائمه في العراق التي لا تحصى بحق البشر والحجر، بدءاً من تدميره تمثال أبي تمام في يونيو/ حزيران 2014، بعد سيطرة التنظيم على الموصل، ومرقد الأربعين، في نهاية سبتمبر/ أيلول 2014 في مدينة تكريت؛ حيث كان المرقد يضم رفات 40 جندياً من جيش الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) خلال الفتح الإسلامي لبلاد ما بين النهرين العام 638 قبل الميلاد، والكنيسة الخضراء التي تعرضت للتدمير في العام 2014، وتعود إلى نحو 1300 عام، ومسجد السلطان ويس التاريخي وسط مدينة الموصل، في نهاية العام 2014، ومكتبة الموصل مطلع العام 2015، وقلعة تلعفر، ومتحف الموصل في فبراير/ شباط 2015، ومدينة الحضر في مارس 2015، ومدينة نمرود الأثرية؛ حيث تعرضت للتجريف، ومرقد النبي يونس في 24 يوليو/ تموز 2015، حيث سُوِّي بالأرض، من دون أن ننسى سيطرة «داعش» على 50 في المئة من الآثار السورية في تدمر، وما تعرض له مسرح تدمر الروماني، وأضرحة دينية، ودير مار إليان الناسك، ومعبد بعل شمين في أغسطس 2015.
ضوء لابد منه
شغل البروفيسور بيتر ستون منصب مدير المركز الدولي للدراسات الثقافية والتراث (ICCHS) في كلية الفنون والثقافات في جامعة نيوكاسل وذلك في العام 2001، ورئيساً للكلية في العام 2006. يدرِّس ستون ويبحث في مجالات إدارة التراث. بين عامي 1998 و 2008 شغل منصب الرئيس الفخري التنفيذي للمؤتمر العالمي الأثري. في العام 2003 كان المستشار الأثري لوزارة الدفاع بالمملكة المتحدة قبل غزو العراق، ويشارك حالياً في البحوث المتعلقة بالجوانب العملية وأخلاقيات خبراء التراث الثقافي ممن يعملون مع الجيش.
حصل بيتر على وسام الإمبراطورية البريطانية ضمن قائمة الشرف في عيد ميلاد الملكة إليزابيث العام 2011 لخدمات التعليم التراث.
بعد حصوله على شهادته الأولى في التاريخ الحديث، ودبلوما في التعليم، درَّس مادة التاريخ في انجلترا واللغة الإنجليزية في اليونان.عمل في أوقات فراغه عالمَ آثار في عدد من المواقع بما في ذلك الموقع الأنجلو - إسكندنافي بنيويورك، كما عمل على حفريات العصر الحجري الحديث في همبلدون هيل في دورست. حصل على درجة الماجستير في الطريقة الآثارية ونظريتها ليشتغل على أطروحته في الدكتوراه التي حملت عنوان «علم الآثار ومشروع التعليم» من جامعة ساوثامبتون.