في بادرة إيجابية وخطوة مهنية صحيحة أجريت سلسلة من اللقاءات الصحافية مع قيادات سياسية ودينية بمختلف اتجاهاتها ومنهم رئيس جمعية الوفاق الوطني الإسلامية الشيخ علي سلمان، والشيخ سليمان المدني، ورئيس جمعية العمل الإسلامي (تحت التأسيس) الشيخ محمد علي المحفوظ، ورئيس جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي أحمد الذوادي. وقد سبق ان أجريت لقاءات صحافية مع قادة الجمعيات السياسية الأخرى. وقد جاءت اللقاءات مع قيادات الجمعيات السياسية الأربع المقاطعة للانتخابات بعد ان ضجت بالشكوى لتحيز الصحافة البحرينية ضد الجمعيات الأربع والتعتيم على مواقفها وبياناتها في وسائل الإعلام.
ولم تقتصر فائدة هذه اللقاءات على تسليط الضوء على موقفها من الانتخابات بل غاصت عميقا، وأطلعت الجمهور على خلفيات هذه الجمعيات وطبيعتها ورؤيتها المستقبلية، وكان من الواضح ان هذه الإضاءة استفزت عددا من السياسيين والصحافيين خصوم الجمعيات الأربع والذين اعتادوا احتكار الحقيقة والتحدث باسم الوطن بزعم أنهم يعرفون مصلحته من دون غيرهم، فاستل هؤلاء خناجرهم، عفوا أقلامهم، ونزلوا طعنا في هذه الجمعيات وقياداتها. بعضهم فتح ملفات المخابرات القديمة ليسرد قصة بوليسية عن تآمر «الجبهة الإسلامية» للإطاحة بالحكم في البحرين، ويعتبر ان (جمعية العمل الإسلامي) ما هي إلا امتداد لتلك الجبهة وان لها أجندة سرية، وكذلك الأمر بالنسبة لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، والدليل على ذلك استمرار مجموعة من الأشخاص في التمسك بـ «حركة أحرار البحرين الإسلامية»، أما ما يعتبره الصحافي «توبة» الجمعيتين الأخريتين (جمعية العمل الوطني وجمعية التجمع القومي) عن مشروعات للإطاحة بالحكم كما كانت تؤمن بذلك في السابق فإنها ليست توبة نصوحا، لأنها بكل بساطة لم تعد لديها قواعد، تبخرت هكذا!! هذا الكلام بكل بساطة تحريض للنظام السياسي ضد جمعيات سياسية شرعية لها قواعدها وثقلها، وكأنها دعوة للعودة للمربع الأول من المواجهة التي خيمت على البحرين، وجاء المشروع الإصلاحي لعظمة الملك مستجيبا لرغبة شعب البحرين ليخرجنا منه، وتتجاهل التغييرات الهائلة في مواقف المعارضة والحكم جميعا.
ثم تتالت الكتابات المسمومة، إذ وصف أحد الكتاب موقف «جمعية العمل الوطني» اليسارية في تحالفها مع الجمعيتين الإسلاميتين بأنه موقف انتهازي رخيص، وشمت بهذا اليسار الذي خسر كل شيء مستشهدا بتصريح الشيخ سلميان المدني، والذي «حرّم التحالف مع اليسار» وهو يعرف ان لا مكان للشيخ المدني في معادلة التحالفات الحالية.
وتبارى الكثير من المتحمسين للمشاركة، قيادات سياسية وصحافيين - ويصعب التفريق بينهم لأن هؤلاء القادة تحولوا إلى صحافيين، وتحول الصحافيون إلى قادة سياسيين - في تشويه مواقف الجمعيات وقياداتها. أحدهم من «اليسار» علل موقف المقاطعة بأنه نتيجة عبادة الشخص من قبل قواعد هذه الشخصيات، أما زعيم الشيوعيين السعوديين التائب عن شيوعيته فقد مضى بعيدا حين اتهم أحد قادة المعارضة بأنه مصاب بالصرع في أيام الطفولة، وكان بالإمكان إقامة دعوى جنائية ضده، ويبدو انه انجز بناء الدولة الديمقراطية في السعودية ليتفرغ إلى توجيهنا لبنائها في البحرين.
الكثير من هؤلاء الكتاب نصبوا أنفسهم مدعين وقضاة في ذات الوقت لمحاكمة المعارضين وتجريمهم بالخيانة العظمى للوطن والبرنامج الإصلاحي. فتحوا صفحات التاريخ بانتقامية شديدة، ليثبتوا ان متطرفي الأمس هم متطرفو اليوم متجاهلين اختلاف الظروف وان الجميع تغير المعارضة والحكم، وهذا ليس مقتصرا على البحرين، فممثل جبهة تحرير ظفار في القاهرة يوسف العلوي هو وزير خارجية سلطنة عمان، وأحمد الربعي أحد قياديي الحركة الثورية، أضحى وزيرا ونائبا لدورات مختلفة. ولن نستغرب مستقبلا إذا ما تطورت تجربة البحرين ان يتبوأ قادة المعارضة مناصب وزارية من دون التخلي عن قناعاتهم وجمعياتهم وانتمائهم السياسي.
مغادرة الماضي
واستشراف المستقبل
إثر وصول صاحب العظمة الشيخ حمد إلى الحكم في 6 مارس/آذار 1999، وإثر كلمته الأولى ذات الدلالات الإيجابية، سارعت المعارضة إلى دعوة مؤيديها إلى إيقاف الأعمال الاحتجاجية من مظاهرات وغيرها. وعلى امتداد فترة التجريب والاختبار التي استمرت حتى إعلان العفو العام في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 تعاطت تنظيمات المعارضة بإيجابية مع الحاكم الجديد، لكنها وبعد إعلان العفو العام رمت بثقلها وراء المشروع الإصلاحي، وكانت إحدى علاماته ميثاق العمل الوطني، وقد شاركت شخصيات وطنية مقربة منها في لجنة صوغ الميثاق، وجاء انسحابها من اللجنة ليسهم إيجابيا في تحسين صيغة الميثاق بطرحها البديل الأفضل والذي أُخذ ببعضه. ما كان لميثاق العمل الوطني ان يحوز على 98,4 لولا ترويج ودعم قوى المعارضة، بعد ان تلقت وتلقى شعب البحرين التأكيدات بالحفاظ على المكتسبات التي تحققت في دستور 1973.
الشيء الأكيد الذي نأمل ان يتكرس هو ما بدا قبل الاستفتاء على الميثاق من حق الاعتراض على ما تراه خاطئا من مشروعات الحكم، سواء أكان ميثاقا أم دستورا أم قانونا أو قرارا. وقد ثبت ان هذه الاعتراضات طورت المشروع الاصلاحي ذاته. المؤسف ان البعض مازالوا يعيشون بعقلية الماضي وهي تقديس كل ما يصدر عن النظام السياسي، ويخونون كل من يعارضه وكأنهم يختزلون الوطن في الحكم ويطابقون بينهما. لقد عز عليهم بروز قوى سياسية شرعية وشخصيات فاعلة في الساحة تتعاطى مع الحكم بصدق واستقلالية، وبذلك فقدوا احتكارهم للحقيقة كما يتصورونها، وإذا كنا نريد ان نؤسس لنظام ديمقراطي تعددي، فإن من أوليات أسسه ضرورة الاختلاف في الرأي والمواقف السياسية، واحترام ذلك ما دام يتم في إطار النظام الديمقراطي الذي ارتضيناه جميعا، والذي نسعى لتحقيقه.
إن مقاطعة الجمعيات الأربع للانتخابات والقوانين التي انهمرت علينا كحجارة من سجيل، يندرج في هذا الإطار، بل ويعطيها صدقية، وإلا أصبحنا مثل الأنظمة العربية الأخرى ذات البرلمانات الشكلية والدساتير الشكلية والأحزاب الشكلية.
لقد أكد صاحب العظمة في لقاء مع الجمعيات السياسية اننا لا نحتاج إلى الحرية فقط بل إلى الديمقراطية ويعني قيام دولة المؤسسات، وأشاد بوطنية الجمعيات الأربع المقاطعة وقياداتها، وأكد على حقهم في التعبير عن آرائهم في وسائط الإعلام المختلفة. من هنا مبادرة صاحب العظمة بإصلاح ما أفسدته وزارة الداخلية بالغائها ندوة الجمعيات في نادي العروبة يوم 18 سبتمبر/أيلول 2002، والسماح بها مجددا في 21 / سبتمبر/ 2002، ويبدو ان أكثر المتحمسين للنظام السياسي هم من يلحق الضرر بهذا النظام إذا اتفقنا على ان النظام السياسي المنشود هو ثمرة للمشروع الإصلاحي يتطلب تغييرات جذرية وجدلا واسعا واصطراعا سلميا خلاقا، واجتهادا من الجميع ولكن على قاعدة الديمقراطية، وليس على قاعدة الاقصاء والتهميش والتخوين والاحتكار للحقيقة
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 22 - الجمعة 27 سبتمبر 2002م الموافق 20 رجب 1423هـ