مَنْ تنبأ بفوز دونالد ترامب كان مخطئاً، ومَنْ تنبأ بفوز كلينتون كان مصيباً. كان هذا الشعور هو السائد إلى ما قبل الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. بعدها قال الميدان ما لم تقله الخارطة. أحد الأكاديميين ممن عاش سبعةً وعشرين عاماً في الولايات المتحدة الأميركية وبات عليماً بشئونها قال: ستفوز كلينتون بـ 70 في المئة وترامب بـ 30 في المئة. هذا الأكاديمي لم يكن مهرطقاً ولا مسفسفاً عندما قال ذلك، كون السَّمت السياسي التقليدي يؤكد قوله، إلاّ أن أشياء مكتومة كانت تعتمل في مجتمع الأميركيين الشماليين لعبت دوراً في تغيير دفة الأمور، بحيث لم يتوقعها حتى الجمهوريون ذاتهم.
دعونا نتوسع قليلاً مع جوقة المتنبئين. قبل فترة سبقت حميّة الانتخابات الأميركية، كتَبَت ناتالي نوغيريد في «الغارديان» مقالاً حول التعصّب القومي في الغرب والشعوبية. وللعلم فإن ناتالي ليست مُنجّمة ولا جاهلة، فهي مديرة لتحرير صحيفة «لوموند» الفرنسية. كانت تناقش وصول الحالة الشعوبية إلى ذروتها في الغرب، وبالتالي فهي في هبوط تدريجي. كانت تقول إن هناك مؤشرات على وجود مقاومة شديدة «لانتشار كراهية الأجانب والتعصب والانبهار المدمر بالرجال الأقوياء» المتخندقين في أرض السياسة.
ناتالي تستقرئ ما يجري. تضرب مثالاً بألمانيا. تقول إن إنجيلا ميركل كأقوى صوت في أوروبا يدافع عن الرأي الآخر والمهاجرين لا تجد مَنْ يُنافسها جدياً في الميدان السياسي الذي ستشهده ألمانيا العام المقبل. ثم تُعرِّج على فرنسا وتقول إن آلان جوبيه السياسي المتعقّل بات يتصدر استطلاعات الرأي حول الانتخابات «النوفمبرية»، في قِبَال نيكولا ساركوزي، وهو ما يجعل اليمين المتطرف وزعيمته ماري لوبان في وجه «هزيمة مكتملة الأركان في الجولة الثانية لانتخابات العام المقبل» كما تصفها.
ثم تزيد في استقرائها للوقائع فتذهب إلى وسط أوروبا لتقتنص مؤشرات مقاومة التعصب هناك كما تراها. تقول إن الحكومة البولندية ذات الميول اليمينية اضطرت لأن تتراجع عن «خططها لتقييد حقوق الإجهاض» بعد موجة غضب عارمة. وفي المجر واجه رئيس الوزراء هناك فيكتور أوربان انتكاسة «كما سمتها» بعد فشل الاستفتاء الذي قام به كي يحصل من خلاله على تفويض بشأن «حصص المهاجرين بالاتحاد الأوروبي بسبب قلة عدد مَنْ حضروا للإدلاء بأصواتهم» كما تقول.
ثم تصف روسيا وتقول إنها اليوم لا تختلف عن غيرها من الدول المعزولة في العالم بسبب دعمها للشعوبية، ناعتة الحالة الروسية بأنها «توهان فكري وأخلاقي». وهي تشير إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يجد مَنْ يؤيده أو يتعاطف معه في العالم (سوى فنزويلا) لأن عليهم إما «التزام موقف أخرق بالصمت» أو «تكرار خط دعائي يجد مواطنون عديدون صعوبة في الاقتناع به» وبالتالي فالروس ليسوا في وارد الحليف القوي المكتسب للشرعية الدولية القائمة على الصداقات والدعم.
وأمام كل تلك المعطيات تنتصر ناتالي لرأيها في أن الملياردير الأميركي دونالد ترامب سيفشل في الانتخابات أمام هيلاري كلينتون التي تمثل خط العقل والاعتدال والحرية كما تراها. كانت تقول إن حملة ترامب الانتخابية «تتقهقر وتضمحل» بعد أن «تضررت من تخلي الجمهوريين عنه ومن ثرثراته عن النساء» هكذا كانت ترى الأمور. وبحسب تعبيرها فإن «الولايات المتحدة تظل البلد الديمقراطي الأقوى في العالم، وسيعني فوز هيلاري كلينتون في نوفمبر سيادة بيئة دولية مختلفة تماماً». فهذا البلد ليس قائماً على رواية فيليب روث وإنما على إرث عريق في الديمقراطية وفق خيالها الصحافي.
هي تعتقد أن «ذكريات الماضي المظلم والحاجة إلى تجنب كارثة سياسية» هي التي باتت تحكم عدم عودة التعصب والإقصاء. ففي الوقت الذي ينافح فيه الألمان ضد حزب البديل اليميني المتطرف، وكذلك النساء في بولندا ضد التطرف القومي ومعاداة الأجانب، والفرنسيون ضد ماري لوبان، سيفعل الأميركيون الأمر ذاته ضد ترامب. فالعقل الغربي تجاه الحرية ومبادئها تكاد تكون واحدة، وهو حساس جداً تجاه مسألة الحريات! وهذا الاستقراء منطقي إلى حد ما.
لذلك، وصلت هذه الصحافية إلى قناعة بأن أوضاع الشعوبيين تتراجع والديمقراطيين تتحسن. هذه الرؤية جعلها تتنبأ «بما لم يحصل» في نتائج الانتخابات الأميركية حيث هزيمة مَنْ اعتقدت أنها ستفوز، وفوز مَنْ اعتقدت أنه سينهزم. شخصياً لا ألومها ولا غيرها ممن أخطأوا في تنبؤاتهم، فالمسألة أكبر بكثير من مسألة استطلاعات للرأي، بقدر ما هي متعلقة بهزة حقيقية في المجتمع السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة لم يلتفت إليها سوى قلة قليلة ومنهم مايكل مور.
نعم، يجب أن نحيِّي ما كتبه مور الذي تنبأ بما حصل فعلاً لسبب واحد فقط وهو أنه بنى رؤيته على أمور لم يفقها أحد من المحليين، بل ولا حتى من حملة كلينتون نفسها. ولو كنت مسئولاً عن حملتها أو فيها لاكتفيت بما نبهها إليه مور في مقاله. فهي رؤية نادرة جداً اجتمع فيها السياسي مع الاجتماعي مع النفسي مع الاقتصادي مع التاريخي ثم عصارة كل ذلك.
كان العالم يقول في العام 2008 إن خِلاسياً لا يمكنه أن يحكم مجتمعاً أبيض، لكن ذلك حصل في سابقة لم يعرفها «عالَم أول» على الإطلاق. ثم جاء اختبار هيلاري، الذي اعتقد البعض أن الأمر قد يتكرر وتحكم الأميركيين امرأة في ظل دعوات المساواة القوية. لكن ذلك لم يحصل. وهنا يأتي الحديث الجديد عن العوامل الطارئة والمترسخة التي لعبت في مزاج الأميركيين. وربما تصبح تلكم العوامل منذ هذه الساعة مفصلاً لن يتجاهله أحد في المستقبل. وللحديث صلة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5180 - الجمعة 11 نوفمبر 2016م الموافق 11 صفر 1438هـ
هل نقول وداعا للاتفاق النووي ؟ هل سيمزقه ترامب حقا ؟
سؤال يهم المنطقة ككل ... ما رأي الأستاذ محمد و الاخوة ؟
أحييك.. مقال ممتاز
في خطاب للسيد علي خامنئي في تاريخ 3-11-2016 قال بأن ترامب هو لذي سيفوز لأنه كشف امور كثيرة وكان صادق مع جمهوره وأما كلينتون ستخسر بسبب عدم صدقها
انا كنت من مشجعي الرئيس ترامب دونلاند وكنت واثق جدا ان اغلبيه الجمهورين والاخر من الامريكان داقوا درع من كدب هاراري وباراك اوباما سوف يسحقهم ان هادا الرجل ليس سياسيا مخضرما ولا يعرف في ازقات مهام الخارجيه ولكن عنده صدق بصيره لما قال لهم الرؤس اكثر جديه لمحاربتهم للارهاب ...التكفيري البغيض ....بما يسمي داعش اخواتها وافضح كدبهم والنفاق السياسي الدي يتبعونه والامريكان ملوا من ان يكونوا بدي غارد لل.... وهادا ما دفع ترامب ليقول عليهم ان يدفعوا مقابل حمايتهم