طاف الكاتب والباحث الاجتماعي يوسف مكي عبر محطات زمنية على مدى قرن من الزمان حول عرشان وبساتين وبحار قرية باربار وأجدادها، موثقًا مراحل تبلور الوعي وإنشاء المؤسسات الثقافية بدءًا من العام 1900 مرورًا بالثلاثينيات حتى السبعينيات، ليحط الرحال حاضرًا بملامح الثقافة الحديثة في القرية.
ونظم نادي باربار الثقافي والرياضي ضمن ملتقاه الثقافي لقاءً ثقافيًا بعنوان «تاريخ الثقافة في باربار على قرن من الزمن»، حيث قدم مكي ورقته مساء الأربعاء (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) في الملتقى الذي أداره الباحث البيئي والكاتب شبر الوداعي الذي نوه إلى التوقف لفترة طويلة عن الأنشطة الثقافية والاجتماعية، وانطلاقًا من الملتقى، نفتتح المشوار لطرح القضايا المحلية وتسليط الضوء على تاريخ القرية، والتركيز على ما يمتلكه المحاضر من تدوين لتاريخ باربار ثقافيًا، ولنضع قاعدة متينة لاستئناف النشاط الثقافي بالنادي.
تحولات وعرشان وفئات
واستهل الباحث مكي الحديث بالإشارة إلى بدء التوثيق من العام 1900، أي على مدى 116 عامًا، حيث عبرت القرية طوال تلك القرية بالتحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحضارية، والكثير من الأمور ذات العلاقة بوعي الناس وعلاقاتهم، فالقرية كانت قبل قرن من الزمان عادية لا تتجاوز حيًا أو (فريقا) كما نقول، تحوي مجموعة من العشش والبرستجات والجبلون أو (الكبر) متجاورة بين بعضها بعضا، وكان الناس يتوزعون على 4 فئات في هذا المجتمع أسوة بالقرى الأخرى، لكن الحديث هنا عن قرية باربار، أما الفئة الأولى فكانت فئة الفلاحين أو المزارعين باعتبار الاقتصاد في المقام الأول زراعيًا ولهذا فإن فئة الفلاحين هي الطاغية، والفئة الثانية هي فئة صيادي الأسماك والبحارة وهم ينقسمون إلى مجموعتين: غواصون وصائدو أسماك، وهناك تداخل في العمل فقد يعمل الرجل صائد سمك في موسم وغواص في موسم آخر، ويمكن أن يكون فلاحًا في موسم آخر، ثم غواصًا أو سماكًا في موسم الربيع أو الصيف، وهناك فئات تعمل حصرًا إما في الفلاحة أو البحر، وبالنسبة للفئة الثالثة فهي فئة التجار، وكان عددهم محدودًا لكن منهم من وصل في تجارته إلى زنجبار وعدن والهند، والفئة الرابعة هي فئة علماء الدين أو من لهم علاقة بالتعليم الديني كالمطوع (المعلم الذي يعلم القرآن الكريم أو اللغة العربية أو الفقه أو الكتب المتعلقة بالأحاديث)، لكن كانت هناك حرف أخرى مثل حرفة (المسجن) الذي يأخذ جذوع النخل ويشذبها لاستخدامها في بناء العرشان أو أواني علف الماشية أو عمل بعض الجسور بين ساقية وساقية أو بين نهرين، وقد عاصرت بعض تلك الجسور.
ومن الحرفيين من أهل القرية قديمًا، من كان يعمل في قطع الجص وهو نوعان في البحرين: جص عادي وجص قدري، فالنوع العادي كان منتشرًا في قرية الحلة والحمرية حيث يقطعون منها الجص ثم يحملونه على شكل نورة، أما الجص القدري فهو الذي يتكون في الأنهار وعلى السواحل وهو على هيئة تجمع (طفلي) على أطراف الساقية يزيل الجصاصون الطفل عنه ثم يجمعونه ويفرشون ليتبخر منه الماء، ثم يُجمع ويُحرق ويُستخدم للبناء.
الثقافة الدينية والكتب الأربعة
وتساءل «هذا التصنيف الاجتماعي، ما هي الثقافة التي كانت مناسبة له؟» مجيبًا بأن الثقافة آنذاك كانت تقليدية قائمة على أسس دينية بطبيعة الحال، كتعليم القرآن الكريم، وكان هناك مجموعات من النساء والرجال (المرأة المعلمة) و(الرجل المعلم) يعلمون الأطفال القرآن الكريم وحروف الهجاء وبعضهم يحفظ القرآن ويختمه، ثم يتجاوز إلى شيء آخر اسمه في التقاليد الشيعية (النسخة أو وفاة النبي أو الكتب التي عادةً تتم قراءتها قبل قراءة الملا أو الخطيب على المنبر)، ويسمى مقدمة أو شيء من هذا القبيل، وكانت الثقافة السائدة في ذلك الوقت تفقهية في تدارس 4 كتب خاصة بالفقه الشيعي هي: الاستبصار وكتاب تهذيب الأحكام وكتاب الكافي وكتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي وهي الكتب الرائجة في تلك الفترة التي يتعاطاها مثقفو ذلك الزمان.
من التقليدي إلى الحديث
ويذهب الباحث إلى أن مظاهر الثقافة تلك استمرت حتى العام 1937، ولماذا ذلك العام تحديدًا؟ لأن مدرسة البديع بالمعنى الحديث للتعليم تأسست في العام 1935 وتم تسجيل أول دفعة من أبناء قرية باربار فيها عام 1937، فكانت مدرسة حديثة يتعلم فيها التلاميذ الحساب واللغة العربية وسائر العلوم، والعلامة الثانية لاختيار ذلك العام، فهو العام الذي تركت فيها مجموعة من أهل القرية العمل في الغوص والزراعة والمهن الأخرى لتلتحق بالعمل في شركة «بابكو»، ولم تكن تلك النقلة للعمل فحسب، بل سنحت لهم الفرصة للاطلاع والتعلم وتعرفوا على الطبابة الحديثة، فالعام 1937 يمثل نقلة مهمة للقرية من الثقافة التقليدية إلى الحديثة ثم تطورت مع ذهاب التلاميذ إلى المدارس ثم التلميذات ابتداءً من العام 1967، وانتشرت الثقافة في الوقت الذي بدأ فيه الناس يمارسون ألعابًا حديثة ومنها لعبة كرة القدم بين الأطفال والشباب.
في تلك الفترة، وصولًا إلى العام 1945 مع دخول أول سيارة إلى القرية، بدت ملامح حضارية أخرى كحفر الآبار الارتوازية ومنها الاستماع إلى المذياع وتعاطى الأهلي مع العالم الجديدة وتبلور الوعي بأسيس مؤسسات ثقافية كنادي باربار والصندوق الخيري وتأسيس أول مدرسة في العام 1969، وهناك معلم مهم بالقياس إلى بعض القرية حيث تعتبر باربار محظية بدخول التيار الكهربائي إليها منذ مطلع الستينات، ودخل التلفزيون في العام 1964 وكان الناس يشاهدون محطة «أرامكو» وهي محطة مهمة في ذلك الوقت اطلع الناس من خلالها على العوالم الحديثة.
الرعيل الأول من المثقفين
وتحول الباحث إلى مرحلة مهمة، وهي تأسيس نادي باربار على يد الرعيل الأول الذي استشرف الوعي مبكرًا وبذل محاولات تكللت بتأسيس النادي الذي يحتفل بمرور 52 عامًا على تأسيسه، فمدة نصف قرن هي مدة طويلة، ولهذا كان للنادي دور في تعميم النشاط الثقافي والاجتماعي والرياضي، وكان الرعيل الأول من المؤسسين يمثلون المثقفون الأوائل الذين اتصلوا بالثقافة الحديثة سواء عن طريق المدرسة أو العمل في بابكو، وأصبح بعضهم يجيد اللغة الإنجليزية والفارسية، ويشير مكي إلى نقطة لطيفة وهي أن بعض الأهالي عرفوا المسرح والسينما في بداياتها أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات حتى كان بعضهم يذهب إلى السينما في المنامة، ويدبر نفسه في الذهاب والإياب.
العدد 5180 - الجمعة 11 نوفمبر 2016م الموافق 11 صفر 1438هـ