في قضية العراق كما في قضايا أخرى لا تسير الدبلوماسية الروسية وفق بوصلة التحالف والمبادئ بل توجهها متغيرات عالم اليوم وقوانين الاقتصاد، لاسيما بعد أن تحولت موسكو من عاصمة تعيل بعض أصدقائها في زمن الحرب الباردة الذي انقضى إلى عاصمة تبحث عمن يعيلها في زمن العولمة.
مؤكد أن موسكو يعنيها أن تستعيد بعض هيبتها المفقودة وفرصة استعادتها تكمن في منع واشنطن من التفرد في صوغ السياسة العالمية، لكن في المقابل فإن الرئيس فلاديمير بوتين لا تساوره الأوهام بحقيقة الفارق الكمي والنوعي في القدرات التي تضع أميركا في الصدارة على قمة الهرم الدولي، كما أن الطبقة السياسية الروسية بالإجماع تدرك محدودية النفوذ العالمي الذي أضحت عليه موسكو مقارنة بما كانت تحظى به في عقود انقضت. فحتى فلاديمير جيرنوفسكي زعيم الحزب «الديمقراطي الروسي» الذي دعا قبل ثلاث سنوات إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة إذا ضرب العراق، وطالبا في وقت لاحق بإعادة النظر في انضمام روسيا إلى عقوبات الأمم المتحدة على العراق، هو نفسه أعلن قبل أسابيع في تصريحات صحافية أن عاصمة بلاده قد تتخلى عن بغداد، متوقعا أن موسكو لن تفعل سوى رفع صوت الشجب عندما تشن الولايات المتحدة هجومها على بغداد. وإذا كانت موسكو تنضم إلى مختلف دول العالم في رفض التوجه الأميركي لتغيير النظام السياسي في العراق، وتاليا في معارضة الحرب التي تنوي واشنطن شنها على هذا البلد، حتى إن الرئيس بوتين أعرب في مكالمة هاتفية أخيرا مع نظيره الأميركي عن شكوكه الكبيرة حول المبررات الداعية إلى اللجوء إلى القوة. فإن الدبلوماسيين الروس ظلوا يمارسون المساومة في مفاوضات الكواليس مع نظرائهم الأميركيين، وبحسب المحلل (هنري ماير) الذي ينقل عن مدير مركز الدراسات السياسي بي. آي. آر «انهم ألحوا على الأميركيين في ضرورة توفير حجة ثم عليهم أن يحددوا الدور الروسي في العراق سياسيا واقتصاديا في مرحلة ما بعد النظام السياسي الحالي، وإذا ما تحقق ذلك فإن موسكو ستتفهم الحرب ولكن لن تدعمها علنا». بيد أن المحلل الروسي (كروستوفر غرانفيل) يعتقد أن المسألة معقدة ويتحتم على الرئيس بوش أن يكون أكثر حذرا، فالهدف من وراء حربها في العراق وما بعده هو الاستيلاء على احتياطات النفط الضخمة في المنطقة، واهتمام موسكو بالعراق وإن كان يعود إلى الحقبة السوفيتية فإنه الآن يحتل مرتبة اقتصادية ونفطية أساسا.
وإذا كان في الشهر الماضي أعلن توقيع معاهدة تعاون اقتصادي بقيمة 40 مليار دولار ما بين بغداد وموسكو حاولت هذه الأخيرة التقليل من أهميتها، وقالت إنها ربطت توقيعها بتلبية مطالب الأمم المتحدة في عودة المفتشين، فالآن وافقت بغداد على ذلك. وتاليا فإن توقيع معاهدة المليارات الأربعين أضحت مرغوبة. وبغض النظر عن التضارب في الأقاويل الخاصة بتلك المعاهدة، فإن المعلومات تقول: إن قافلة شاحنات تحمل معدات حفر روسية وصلت حديثا إلى العراق عبر «معبر الوليد» الحدودي مع سورية، وسيلحق بها قريبا حوالي 50 اختصاصيا روسيا لبدء أعمال حفر 45 بئر نفط. ويقول المدير التنفيذي لشركة «زارو بجنيف» الذي يزور العراق تقريبا كل ثلاثة أشهر: إن صفقة 45 بئرا لا تتجاوز عدة ملايين من الدولارات، ولكنها تفتح الطريق أمام الشركة للحصول على امتياز تطوير حقل «بن عمر» المهم الذي يمكن أن يشكل صفقة كبيرة بالنسبة إلى الشركة تتمثل في مليارات الدولارات. وفي التفاصيل أنه حتى وزارة الطوارئ التي تختص بالفيضانات أو حرائق الغابات وما إلى ذلك من كوارث قد دخلت حلبة الاستثمار في العراق إذ أسست شركة تابعة لها للاتجار في النفط العراقي، فضلا عن أن الكثير من الشركات الروسية المملوكة للدولة من بينها شركة «سلافنفت» حصلت على عقود من بينها تطوير حقل لحيس جنوب العراق لاستخراج 490 مليون برميل، بينما حصلت شركات تاتنفت وروسفنت وزارة وبجينفت على عقود التطوير عدة حقول أخرى فيما وقعت شركة «سيبور» وهي فرع من شركة «غاز بروم» الروسية العملاقة عقدا لتطوير حقل غاز الجنوب.
ويرى المحللون أن عمق الروابط الاقتصادية المتزايدة بين روسيا والعراق، سواء القائمة الحالية أو المحتمل إقامتها مستقبلا لابد أن تشكل تحديا كبيرا للرئيس الأميركي المهووس بشن الحرب على العراق، ومن الطبيعي أن موسكو التي ساندت واشنطن في حربها على أفغانستان أن تبرز مزيدا من المعارضة والإعاقة للمسعى الأميركي. ويعلق وزير النفط والطاقة الروسي السابق يوري شافرانك: «إذا حدث هجوم أميركي على العراق، فإن ذلك سيضعنا في موقف صعب، لأنه يعني أن الموقف الروسي قوبل بالتجاهل، وأن أحدا لا يهتم بما تريده روسيا. وهذا لا يمكن القبول به من جانبنا مهما كانت النتائج». وتنضم إلى شافرانك عدة أصوات مما بات يُعرف بـ «اللوبي العراقي» في الطبقة السياسية الروسية الذين يؤكدون أن موسكو التي كانت الشريك الاقتصادي الأول للعراق إبان الحقبة السوفياتية، ظلت تحتل هذه المكانة حتى ظل الحصار المفروض على هذا البلد، ولذا فإن عليها ليس فقط أن تضحي بمصالحها الكبيرة وإنما أيضا أن تضغط بقوة لرفع العقوبات عنه، لأن رفعها يمثل مصلحة استراتيجية لموسكو وليس فقط لبغداد.
وإذا كان قبول بغداد السماح بعودة المفتشين من دون شروط سهل على موسكو أن تعارض إصدار قرار من مجلس الأمن بشأن العراق، فإن هذه المعارضة لا يتوقع لها أن تستمر إذا ما تعرضت إلى ضغوط أميركية جدية، سيما وقد تعاظمت مصالح موسكو الاقتصادية مع واشنطن لجهة تحول أميركا إلى أحد أهم زبائن النفط الروسي.
وطبعا هناك أكثر من ورقة مساومة يمكن أن تلوّح بها واشنطن في وجه موسكو في المقدمة منها حرب الشيشان والتوترات مع جورجيا، فضلا عن الذهاب لتوقيع عقوبات على شركات روسية، وربما على الحكومة الروسية بتفجير قضية تصدير تكنولوجيا نووية إلى إيران. ومع ذلك ظل هناك بارقة أمل في موقف روسي متشدد في وجه الجموح الأميركي يكمن في وجود مساندة من جانب الأوروبيين لموسكو في موقفها لاسيما من ألمانيا وفرنسا اللتين لهما معها مصالح اقتصادية كبرى، تفوق بلغة الأرقام مصالحها الاقتصادية مع واشنطن
العدد 21 - الخميس 26 سبتمبر 2002م الموافق 19 رجب 1423هـ