الفساد بأشكاله كافة آفة اجتماعية وسياسية مستشرية في كل المجتمعات ، إلا أن درجة الفساد الإداري في الأنظمة الديمقراطية تقل نسبتها بكثير عن نسبة الفساد في الأنظمة غير الديمقراطية، بل انها تكاد تخلو ممن تسري هذه الآفة الاجتماعية والسياسية عليه. نظرا لوجود قوانين وأنظمة رقابية ومحاسبية رادعة لكل فاسد إداري أو سياسي. كما أن الأنظمة الديمقراطية عودت شعوبها على شعار الرجل المناسب في المكان المناسب. في الحقيقة إن المعيار المعمول به في هذه الأنظمة الديمقراطية، يأخذ في الاعتبار عناصر الكفاءة والخبرة والمؤهل والنزاهة للموظف الإداري أو السياسي. وقلما نجد وزيرا أو وكيل وزارة على سبيل المثال يحمل مؤهل سادس ابتدائي، لمجرد انه خدم الوزير أو المسئول واصبح يستحق الوظيفة.
أما بالنسبة للذين يحتلون مكاتب انتخابية دستورية، كعضو البرلمان أو رئيس مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، فلا يمكن أن يكونوا فاسدين لأنهم منتخبون من الشعب، إلا في حالات الغش في الانتخابات، وهذا يحصل احيانا في الأنظمة غير الديمقراطية.
والأنظمة الديمقراطية لا تفرق قوانينها بين اللون أو الجنس أو الدين أو الطائفة، مادام المتقدم إلى المنصب مواطنا يستحق الوظيفة ويتمتع بكل حقوقه المدنية وحق المواطنة. نحن لا يمكننا تغيير الميول البشرية تجاه من تحب، ولكن القوانين والتشريعات وضعت حدودا وضوابط للمسئول يتخذ بموجبها القرار المناسب، وهذا من دون شك شأن دول المؤسسات الدستورية. صورة الفساد الاداري بأشكالها كافة التي نشاهدها في البلدان النامية والبلدان غير الديمقراطية، تعتبر قمة في جهل الاداء الوظيفي، ومخالفة لقاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب، وسببا من أسباب تخلف هذه البلدان حضاريا، بل إنها اقسى أنواع الفساد الإداري والسياسي، لأنها تكون سببا في ضعف تنمية المواد البشرية، وتستخف بحقوق المواطن المدنية والدستورية، وتثقل كاهل الدولة ماديا وتضعف النمو الاقتصادي، وتكون عثرة في طريق التنمية المستدامة.
ولكن ما هي اوجه الفساد الإداري، وما مدى تأثيرها على الاقتصاد الوطني، وكيف يمكننا مكافحة هذه الآفة الاجتماعية والسياسية؟ أسئلة نحاول الإجابة عنها.
اوجه الفساد الإداري
الفساد الإداري يشجع نمو التجارة غير المشروعة وفقا للأوجه الآتية:
1- التوظيف وفقا لمعيار المصلحة الشخصية.
2- المتاجرة بأنواعها المختلفة، وأنشطة البغاء أو الدعارة أو شبكات «الرقيق الأبيض».
3- تهريب السلع الممنوعة عبر الحدود.
4- تجارة السلاح وغيرها.
5- السوق السوداء والعملات الأجنبية في الدول التي تفرض رقابة على معاملات النقد الأجنبي وغيرها من التجارة المحرمة.
6- الرشوة والفساد الإداري والتربح من الوظائف العامة، وذلك من خلال الحصول على دخول غير مشروعة مقابل التراخيص أو المرافقات الحكومية أو ترسية العطاءات في العقود والمعاملات الدولية والمحلية المخالفة لنصوص اللوائح والقوانين العامة والخاصة.
7- العمولة التي يحصل عليها بعض الأفراد مقابل عقد صفقات الأسلحة والسلع الرأسمالية أو الحصول على التكنولوجيا المتقدمة، أو أي صفقات تجارية كبيرة القيمة، مقابل تسهيل الإجراءات الحكومية باستخدام النفوذ الوظيفي، أو اقامة علاقات مع المسئولين في الحكومة لإنهاء الإجراءات بسرعة، متجاوزين تطبيق النصوص أو الشروط المنظمة لعقد الصفقات أو المقاولات.
8- السرقات أو الاختلاسات من أموال عامة مثل أموال الخزائن الحكومية والشركات العامة وأموال المصارف والصناديق المالية، ثم تهريب هذه الأموال إلى الخارج بإيداعها في أحد المصارف التجارية الأجنبية هناك.
9- التهريب الضريبي (لا ينطبق على البحرين) من خلال التلاعب في الحسابات أو إخفاء مصدر الدخل وعدم سداد الضرائب المستحقة على النشاط إلى خزانة الدولة، وتحويل الأموال إلى خارج البلاد بإيداعها في المصارف الخارجية.
10- الاقتراض من المصارف المحلية من دون ضمانات كافية أو بضمانات صورية أو مبالغ في قيمتها، وتحويل الأموال الخارج من دون سداد مستحقات هذه المصارف، وهروب الاشخاص المقترضين مع اموالهم إلى الخارج لفترات معينة حتى تسقط الجرائم والأحكام عليهم بالتقادم أو تحويلها بأسماء أفراد آخرين من العائلة.
11- تزييف النقود المحلية والأجنبية ذات الفئات الكبيرة وبطاقات الائتمان والشيكات والشيكات السياحية، أو تزوير الشيكات السياحية أو عمليات النصب والاحتيال، أو الاتجار بالسلع الفاسدة أو المقلدة.
12 - المضاربة غير المشروعة بالأوراق المالية بخداع المتعاملين في البورصة.
13- الفساد السياسي والجاسوسية الدولية، أو التستر على إقامات الأجانب غير المشروعة.
تأثير الفساد الإداري على الاقتصاد الوطني
جرائم الفساد الإداري لها تأثير مباشر على النمو الاقتصادي الوطني بمجرد خروج الأموال من البلد، أو مشاركتها في الأنشطة التجارية والاقتصادية والمالية الخارجية، هذه الأنشطة تضعف العملة المحلية. والفساد يسبب أيضا الركود الاقتصادي لبلد المصدر، على اعتبار أن التجارة غير المشروعة جزء من التجارة و الاقتصاد الخفي، الذي لا يخضع لمراقبة الدولة ولا يتقيد بقوانينها. ومن الطبيعي أن تكون لأنشطة الفاسدين آثارها الاجتماعية أيضا، فوفرة السيولة لدى فئة عادية من الطبقات الاجتماعية يخلق وضعأ اجتماعيا جديدا يكون عادة غير طبيعي، لأنه يعطي الامتياز لفئة غير متعلمة و غير مثقفة من المجتمع تغالي في الرفاهية وأساليب البذخ والشراء.
أموال الفساد كذلك لا تسجل في حسابات الدولة، ولا توجد معلومات عنها لدى أجهزة نظرا لاخفاء ملاكها حقيقة مصدرها. لذلك فإن تلك الأموال لن تدخل في احصاءات الدول للناتج القومي الإجمالي، ولا في احصاءات نصيب الفرد من الناتج القومي الاجمالي.
الشركات التي تؤسس من اموال الفساد ما هي إلا شركات وهمية أسست لخداع أجهزة الدولة المختصة، لذلك فانها لا تسهم في التنمية الاقتصادية للدولة، ولا ترفع من نصيب دخل الفرد.
مكافحة الفساد الإداري
الأمم المتحدة وضعت إطار دوليا لمكافحة الفساد والرشوة بكل أنواعها فقد تبنت اعلان «الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والرشوة» المتخذ في الجمعية العامة في جلستها 86 بتاريخ 16 ديسمبر /كانون الأول 1996 وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3514 (د -30) بتاريخ 15 ديسمبر 1975 الذي يدين كل الانشطة الفاسدة بما فيها الرشوة.
الاعلان يهدف إلى:
التزام الدول فرادى ومن خلال المنظمات الدولية والاقليمية باتخاذ اجراءات رهنا بالدستور الخاص بكل دولة، ومبادئها القانونية الأساسية، واعتمادها وفقا للقوانين والاجراءات الوطنية بهدف مكافحة الفساد والرشوة في أراضيها.
وأجل من تفعيل أدوات المراقبة المالية، وزيادة شفافية العمل في إدارات الدولة كافة، يصبح من اللازم إنشاء ديوان للرقابة المالية وآخر للرقابة الادارية. والمادة (97) من الدستور وضعت ايضا اسسا للمراقبة بأن: «ينشأ ديوان للمراقبة المالية يُكفل استقلاله، ويكون ملحقا بالمجلس الوطني، ويعاون الحكومة والمجلس الوطني في رقابة تحصيل ايرادات الدولة وإنفاق مصروفاتها في حدود الموازنة، ويقدم لكل من الحكومة والمجلس الوطني تقريرا سنويا عن اعماله وملاحظاته».
إذا عند تفعيل العمل بالدستور والميثاق، لا بد من إنشاء ديوان للمحاسبة الادارية ومحكمة إدارية، حتى ننهي عهد طويلا من انفراد السلطة وعدم خضوعها للمساءلة الشعبية. كما أن تنظيم المالية العامة من خلال وضع نظام للموازنة، يتم فيه تحديد اوجه المصروفات والإيرادات العامة للدولة، وفقا للقواعد الاساسية المنظمة لعمل الموازنة والجهات التنفيذية المناط بها إعداد الموازنة. كما يجب تحديد الإجراءات الرقابية التي تضمن الالتزام بالقواعد التنظيمية، والجهات المحاسبية المسئولة، وتحديدا منها ديوان المحاسبة الذي يتبع المجلس الوطني ويعينه على أداء دوره الرقابي لمكافحة الفساد الاداري. من هنا يجب تحديد مفهوم الوظيفة العامة باعتبارها شرفا يناط بالقائمين عليها خدمة المواطنين، وبما أن كل من يتقاضى مرتبا من الخزانة العامة للدولة يعد موظفا عاما، فإن هناك حرمة للأموال العامة ويجب تجريم الاعتداء عليها، وعلى المسئول صيانتها كواجب على كل من يشغل الوظيفة العامة. وعلى الدولة رعاية العمل وضمانه للمواطنين باعتباره واجبا تقتضيه الكرامة الإنسانية.
ولمكافحة الفساد الإداري في مملكتنا الحبيبة البحرين، يجب وضع قوانين جديدة لتحديد الاختصاصات وعلاقة السلطات الثلاث فيما بينها، وفقا لما ورد في نصوص الميثاق، مثال على ذلك: «أن تختص السلطة التنفيذية في رسم وتنفيذ السياسة العامة والمحافظة على مصالح الدولة. بينما تختص السلطة التشريعية المنتخبة عن طريق الاقتراع المباشر، لمهمات: التشريع والرقابة والمحاسبة. وتختص السلطة القضائية بحل المنازعات. وتختص الرقابة الإدارية بقضايا العمل والعمال، ووضع أنظمة وتشريعات عادلة لتنظيم أعمال الخدمة المدنية والوظائف العامة المدنية، كقانون العمل بالقطاع الحكومي، وقانون المعاشات ومكافآت التقاعد للموظفين».
من ناحية أخرى، يجب أن تتاح الفرصة للصحافة ومؤسسات المجتمع المدني لممارسة دورها الرقابي والمحاسبي لمكافحة كل أشكال الفساد في ظل شفافية مؤثرة ورادعة
العدد 21 - الخميس 26 سبتمبر 2002م الموافق 19 رجب 1423هـ