العدد 21 - الخميس 26 سبتمبر 2002م الموافق 19 رجب 1423هـ

أين المثقفون والمنطقة مقدمِة على زلزال جديد؟

بين أحلام حرب الخليج الثانية... وأوهام الانتفاضة

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

عقد «المعهد العربي لحقوق الانسان» حديثا ندوة في تونس عن «الإعلام العربي والانتفاضة الفلسطينية»، دعا إليها عددا من الإعلاميين العاملين في بعض القنوات الفضائية والإذاعات الحرة والصحافة المكتوبة، وطرح عليهم جملة من الاسئلة تدور حول مدى رضاهم عن التغطية الإعلامية العربية للحوادث الأخيرة والخطيرة التي شهدتها الأراضي الفلسطينية - وعلى رغم صعوبة أن يتجاوز المرء ذاته، ويضع أداءه تحت المجهر، ويقيّمه بموضوعية وتجرد، اذ أن النفس ميالة بطبعها إلى الرضى والابتعاد عن الاعتراف بالخطأ وممارسة النقد الذاتي، لكنهم مع ذلك أقروا بأن الإعلام العربي اجتهد، غير أنه لم يصب الهدف في أغلب محاولاته.

ما يهم في هذا السياق ليس تفاصيل الندوة ومحاورها ومواقف المشاركين فيها من عدة قضايا مهمة تحتاج إلى وقفات في مناسبات أخرى، وإنما ما لاحظه البعض فيما يتعلق باختفاء المثقف العربي خلال تصاعد المواجهة بين الفلسطينيين والعدو الاسرائيلي، أو عدم بروزه كسلطة مرجعية رغم أهمية الحدث واختراقه الطبقات والفئات جميعا في البلاد العربية، وهو أمر يكاد يحدث للمرة الأولى في تاريخ الهزات التي عاشها العرب منذ اكثر من قرن ونصف.

آخر معركة خاضها المثقف العربي باستماتة شديدة، كانت بلا شك خلال حرب الخليج الثانية، حين انقسم المثقفون - مثلهم مثل بقية شرائح الأمة - وتقاتلوا بالكلمة وأحيانا بالايدي دفاعا عن المواقف التي اتخذوها من مختلف التطورات والتداعيات التي خلفها وراءه ذلك الزلزال الرهيب. استنفذوا يومها كل ما ادخروه من منطق وحجج وأفكار واحتمالات وسيناريوهات، بل منهم من تجاوز اختصاصه ومجاله المعرفي ليجعل من نفسه خبيرا عسكريا يرشد العراقيين إلى افضل «استراتيجيات» التصدي للهجمات الاميركية. كل ذلك لاعتقاده بأن المرحلة التاريخية تتطلب منه الانخراط الكامل في الحدث.

في المقابل، كاد صوت المثقفين أن يختفي كليا خلال يوميات الانتفاضة الثانية، خصوصا عندما هب الشارع العربي للتضامن مع الفلسطينيين الذين واجهوا وحدهم وبإمكاناتهم المحدودة جيش الاحتلال الاسرائيلي. ففي بلد مثل المغرب الاقصى الذي عُرف منذ مطلع الثمانينينات بصعود نخبة متينة في تكوينها، وملتصقة بالهموم العربية وبمشاغل المجتمع المدني المحلي، وكانت لها مساهمات ملحوظة في أزمة الخليج، انكفأت على نفسها هذه المرة. يقول أحد الصحافيين البارزين في صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» إن الاشهر الاخيرة تميزت بغياب المثقف من المشهد الاعلامي والسياسي، على رغم التعبئة الكبرى التي عاشها الشارع المغربي، وبلغت مداها خلال المسيرة المليونية التي عرفتها شوارع الرباط.

هذه الشهادة عززتها شهادات أخرى مشابهة من بلدان عربية كثيرة، وهو ما استوجب البحث عن الأسباب التي أفرزت هذه الظاهرة. فغياب المثقف يعتبر مؤشرا قويا على وجود أزمة خطيرة داخل النخبة والمجتمع، فدور المثقف عادة ما يبرز في حالات التأزم الشديدة. فهو الذي يسعى في مثل تلك الظروف العصيبة إلى اختراق الحواجز النفسية والفكرية والسياسية التي يصنعها العدو أو تكرسها الهزائم ويخلقها اختلال موازين القوى، وهو الذي يفتح عادة مجال الرؤية ويحول المستقبل إلى إمكان في متناول أفراد المجتمع وطلائعه السياسية، لهذا يعتبر صمته دليلا على فقدان الدليل واحتجاب الرؤية وفقدان القدرة على الاستشراف.

مأزق الاستراتيجيات الفلسطينية

هنا يجب الاعتراف بأن القضية الفلسطينية دخلت نفقا مظلما. فكل السيناريوهات التي لايزال فرقاء الساحة الفلسطينية يطرحونها ويتخاصمون بسببها تبدو غير مضمونة النتائج. فالذين يتبنون خيار المقاومة المستمرة من أجل تحرير كل فلسطين، يدافعون عن سيناريو منطقي يدعمه الإيمان بالحق التاريخي، لكنه من الناحية الاستراتيجية والعملية يصطدم بالوضع الدولي الراهن وبميزان قوى مختل تماما. لهذا فإن اقصى ما يمكن أن يؤدي إليه هذا الطرح هو زعزعة العدو وإرباكه، ما قد يدفعه إلى قبول التفاوض، أي أن سيناريو المقاومة يؤدي سياسيا وفي أفضل الحالات إلى المفاوضات.

وهنا يتقدم اصحاب السيناريو الثاني الذين يعتمدون الحل السياسي ويتخذون من المفاوضات استراتيجية يعتقدون أنهم من خلالها سيتمكنون من افتكاك أقصى ما يمكن من الاراضي والسيادة، لكن التجارب السابقة بينت أن أكثر ما اصبح يرعب الفلسطينيين هو المفاوضات، فهي تعني عند الغالبية منهم تقديم مزيد من التنازلات والخضوع لمزيد من الابتزاز الإسرائيلي، من دون ضمان نتائج ثابتة على الأرض، فالاتفاقات التي يتم التوصل إليها مع الاسرائيليين يمكن أن تبقى حبرا على ورق. لهذا انتهت كل المفاوضات السابقة مع الاسرائيليين إلى سلسلة من المآزق، بسبب سياسة الباب الدوار التي انتهجها العدو. وهي سياسة تهدف إلى ارهاق الفلسطينيين ودفعهم من جهة نحو اليأس والقبول بالفتات، ومن جهة أخرى تغذية الفتنة بينهم ودفعهم نحو التقاتل ونقل المعركة إلى داخل البيت الفلسطيني، وعندما تصاب السلطة الوطنية بالاعياء وتعجز عن اجبار الطرف المقابل على التقيد بقواعد اللعبة السياسية، تعود الكرة من جديد إلى ملعب أصحاب سيناريو المقاومة ليتولوا توجيه عدد من الضربات الموجعة إلى العدو في انتظار أن يبدي استعداده لخوض جولة أخرى من البحث شبه المستحيل عن حل سلمي شامل وعادل ودائم كما تعبر عنه مختلف الوثائق الرسمية العربية. هذا يعني أن الفلسطينيين قد جربوا كل الاستراتيجيات الممكنة، غير أن جميعها قد تحقق لهم بعض المكاسب لكنها في المقابل تخلف لهم كما هائلا من الصعوبات والعوائق التي تعيدهم من جديد إلى نقطة الصفر.

أمام هذه الوضعية يقف المثقف عاجزا عن الافصاح عن رأي لا يستطيع أن يجزم بأنه الأفضل والأقرب للصواب، فمن جهة لم يترك العدو - المسنود بإدارة اميركية فاقدة للعقل والحس الاخلاقي - أي منفذ ولو صغير لبلورة اختيار واقعي يمكن الرهان عليه، ومن جهة أخرى تقف القيادة الفلسطينية والأنظمة العربية عاجزة عن القيام بأي عمل من شأنه أن يشعر العالم بكونها رقما فعليا موجودا لا يمكن تجاهله. إن المثقف في مثل هذه الحال لا يستطيع ان يعوض السياسي، ولا يمكنه أن يدفع بالجماهير إلى القفز في المجهول، لهذا يفضل الصمت ومراقبة التطورات على أن يدعو إلى سيناريوهات قد لاتزيد الطين إلا بلة.

هل يمكن المراهنة

على الحرب؟

هذا المأزق الاستراتيجي هو الذي دفع مفكرا كبيرا مثل المؤرخ التونسي هشام جعيط إلى الاعتقاد بأن المنطقة العربية في حاجة إلى حرب ترجّها من الاساس، عسى أن يشكل ذلك مدخلا لإعادة ترتيب الاوضاع، فالعنف يصبح أحيانا ضرورة لدفع حركة التاريخ إلى الأمام، وهناك من المثقفين من يشاطر جعيط في رأيه، لأنهم يشعرون بأن اللعبة اصبحت مغلقة، ما يستوجب فتحها أو الانسحاب منها نهائيا، بل هناك شعور بأن اغلب السياسات الرسمية العربية غير جادة في المساعدة على قيام دولة فلسطينية. كما أنها من دون استنثاء تحتاج إلى اصلاحات ديمقراطية هيكلية لكنها تعتقد بأن ذلك لن يكون في صالحها. لهذا تعمل بكل الطرق على وضع العراقيل بشكل مباشر وغير مباشر، فتكون نتيجة ذلك استعدادها المستمر لتقديم تنازلات للقوى الخارجية مقابل مزيد من احكام قبضتها على القوى السياسية والاجتماعية الداخلية. وهو ما يحد من امكانات نشأة احزاب وجمعيات قوية وفاعلة، وينتج بالضرورة مجتمعات فاقدة للمناعة الثقافية والسياسية وغير قادرة على التصدي للأعداء الطامعين في تفتيت الأمة والسيطرة على مقدراتها والنيل من استقلالها.

وهكذا تكتمل الحلقة ويصبح التحول الديمقراطي السلمي في الداخل شبه مستحيل، والتصدي للعدو بشكل حازم وناجع غير وارد. وهنا تبدو الحرب من جهة نتيجة طبيعية لهذا الانسداد الاقليمي الشامل، ومن جهة أخرى قد تؤدي إلى إعادة ترتيب كامل لمختلف الأوضاع والقوى.

المشكلة أنه سبق للباحث هشام جعيط وعدد آخر من المفكرين العرب أن دافعوا عن الرهان نفسه خلال حرب الخليج الثانية. وتنبأ يومها الكثيرون بقيام نظام عربي اقليمي جديد. لكن حدثت الحرب، واضطر العراق إلى التراجع بعد ان انهزم عسكريا، وقُسّم سياسيا، وضرب اقتصاديا، فجاءت أوضاع ما بعد الحرب اكثر سوءا مما كانت عليه قبل التسعينات. ربما يعود ذلك إلى الخطأ الاستراتيجي والقاتل الذي ارتكبه صدام حسين بداية عندما اجتاح الكويت مثبتا بذلك عدم فهمه للوضع الدولي الجديد عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن إلى جانب ذلك لم تكن القوى السياسية وفعاليات المجتمع المدني العربي قادرة على توظيف نتائج الحرب لصالح رؤية جديدة لوضع عربي أفضل، بل إن المراهنات المغلوطة والزائفة التي تولدت في مطلع المواجهة، وتهاوت أمام الاختلال الكبير في موازين القوى، خلفت وراءها حالا من الاحباط الجماعي لاتزال تفعل فعلها حتى الآن.

الأكيد أن المنطقة العربية مقدمة على مرحلة حالكة ستكون مكلفة على اكثر من صعيد، بشريا وسياسيا واقتصاديا فالضغوط التي ستشتد على أكثر من بلد، والتغييرات التي قد تشمل اكثر من نظام تفرض على الكل وخصوصا المثقفين العرب التخلص من حال الارتباك والعجز، ومصارحة الرأي العربي واطلاعه على ما يُحاك هنا وهناك.

الأمة في حاجة إلى فتح ملفاتها كلها ومعرفة مصيرها وتحميل كل طرف مسئولياته بوضوح، والمجتمعات العربية في أشد الحاجة هذه الأيام إلى فتح كل النوافذ والأبواب حتى تستنشق بعض الهواء النقي، وتنظر لأوضاعها ومحيطها الإقليمي والدولي من دون لبس أو تزييف مهما كان المشهد مخيفا ورهيبا

العدد 21 - الخميس 26 سبتمبر 2002م الموافق 19 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً