الدول العربية خائفة. خائفة إذا وافقت على ضرب العراق. وخائفة إذا لم توافق. إذا وافقت فهناك مخاطر من تداعيات الضربة قد تطال الدول المجاورة جغرافيا. وإذا مانعت قد تحصل الضربة بتغطية من الأمم المتحدة فتصبح دول المنطقة عرضة للمساءلة التي ربما تطال شئونها الداخلية وتعرض سيادتها ومصادر ثروتها للخطر.
والمخاوف مبررة على الجهتين: فلكل موقف انعكاساته السلبية، حتى أن هناك بعض المخاطر الناجمة عن «اللاضربة». فإذا استمرت الولايات المتحدة في قيادة حملة التصعيد الدولية لتأييد موقفها ولم توجه ضربتها بسبب عدم اكتمال شروطها سينعكس الموقف سلبا على الدول العربية المجاورة لأنها ستبقى مستنفرة وواقفة «على أعصابها» تنتظر اللحظة ولا تأتي. فالجمود أيضا مشكلة وهو يسبب الخسائر المعنوية ويستنزف القوى ويعطل الجهود.
إذا هناك دائرة (360 درجة) تحيط بالخناق والدول العربية لم تجد حتى الآن وسيلة للخروج منها، كذلك لم تنجح في فتح ثغرة في جدارها تستطيع منها اكتشاف وسيلة للتفاوض أو للتفاهم لتحديد سقف الخسارة ومداها السياسي والزمني. فالزمن في المعنى الحاضر له ثمنه وإذا فات القوى العربية ستفوتها الكثير من التحولات ولن تستطيع مستقبلا اللحاق بها.
هذه المواقف الضائعة في الوقت الضائع تزيد من حيرة الدول العربية وارتباكها بحثا عن خيط وهمي ينقلها من حال الانتظار إلى حال وعي الحاضر ومتطلباته. يذكّر هذا الموقف التائه بتلك اللحظات التي عاشها المشرق العربي حين انسحبت الجيوش العثمانية من بلاد الشام إلى وراء جبال طوروس لتحل مكانها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
آنذاك كان المشرق العربي يحكمه نظام الولايات ولم يصل بعد إلى مرتبة الدولة. وبسبب ذاك الفراغ التاريخي (السياسي ـ الدستوري) انقسمت الأطراف العربية على نفسها بين تيار يدفع باتجاه إعادة العلاقات مع السلطنة واتجاه يطالب بقطع كل الصلات.
المشكلة ليست هنا. المشكلة هي أن التيار الإصلاحي الذي يطالب بتجديد العلاقات مع اسطنبول كان ينقصه التصور ويفتقد إلى البرنامج الذي يعيد تأهيل الروابط ويجسر ما انقطع من صلات. كذلك كان حال التيار القومي الذي اعتبر أن الرابطة اللغوية أقوى من الدينية، فهو أيضا كان في موقف لا يُحسد عليه. فمن جهة، لا يريد «الأتراك» ومن جهة، غير مستعد للتخلي عن استقلاله القومي لمصلحة الانتداب البريطاني ـ الفرنسي.
وبسبب ضياع الهوية سقط المشرق العربي في حلقة الاستعمار الذي سوّر جدار المشرق العربي وعزله عن محيطه وبدأ بتقطيعه: هذه لفرنسا وتلك لبريطانيا.
وضمن الدائرة المقفلة تحولت «الولايات العثمانية» إلى دول عربية. وتمت التعديلات على الخريطة الجغرافية ـ السياسية (سايكس ـ بيكو) في لندن وباريس. وأعلن التمسك بوعد بلفور وظهرت الدول كما هي الآن دفعة واحدة في العام 1920.
وحرص الانتداب على إبقاء «لغم» في كل دولة. وأوقفت كل دولة على «برميل بارود» مهدد بالانفجار في أية لحظة. لم يكن بإمكان الشعوب العربية، وتحديدا شعوب المشرق العربي، أن تفعل شيئا سوى الاعتراض والاستنكار والتظاهر وغير ذلك كان في يد الانتداب هو من يحرك وهو من يضغط في حال تجاوز الاحتجاج السقف المسموح به.
كان بإمكان الانتداب أن يفعل ما يريد. كان يستطيع إعلان دولة كردية في شمال العراق. كان بإمكانه تقليص مساحة فلسطين. كان بإمكانه توسيع مساحة لبنان. كان بإمكانه أن يرسم حدود الأردن والعراق بشكل يختلف عما هي عليه الآن. كان يستطيع أن يفصل البصرة ويضمها إلى الكويت، أو يضم الكويت إلى العراق. أعطى الانتداب لواء الاسكندرون لتركيا، وكان بإمكانه إضافة الموصل وكركوك إلى دولة أتاتورك.
كان الانتداب يقدر أن يفعل ما يريد بالشعوب والخرائط والجغرافيا والسياسة من دون حسيب أو رقيب. فهو المنتصر وهو القادر (عن حق أو من دون حق) أن يفعل ما يشاء.
الآن يبدو أن تلك الخرائط السياسية استنفدت وظيفتها التاريخية، وانتهى دورها مع نهاية «الحرب الباردة».
نحن الآن في عصر انتداب جديد تقوده الولايات المتحدة بعد غياب القديم عن مسرح التاريخ. فالانتداب الجديد يريد تشكيل المنطقة وفق أسلوبه وحاجاته، ويريد أن يصنع خرائطه الخاصة وغير الموروثة عن سلفه البريطاني ـ الفرنسي.
والسؤال: هل هذا هو أصل هواجس الخوف التي تعيشها الدول العربية؟ من يدري
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 21 - الخميس 26 سبتمبر 2002م الموافق 19 رجب 1423هـ