يعني الكثير. لماذا؟
لأن مصر تعاني من تدهور اقتصادي سببه تفاقم عجز الموازنة وعجز بالميزان التجاري وارتفاع معدل الواردات مقارنة بالصادرات، وتمدد التضخم وتراجع الإنتاج والسياحة وتدني الاستثمار الأجنبي مضاف إليه شح العملة الصعبة.
وعلى رغم تنفيذ الحكومة بعض الاصلاحات الحمائية؛ كزيادة قيمة المعاشات إلى «15 مليار جنية» ورفع أعداد المستفيدين من برنامج «تكافل وكرامة» إلى «1.7 مليون أسرة»، إلا إن تأثير هذه المسكنات ضعيف؛ بسبب إجراءات التقشف وفرض الضرائب التي تأتي بموازة خسارة الجنية المصري نحو «110 في المئة» من قيمته أمام الدولار، حيث تهاوى هذا الشهر بين 15 و16 جنيها. في خضم هذا الوضع وعوامل أخرى متشابكة، اتخذ البنك المركزي قرارات اقتصادية مؤلمة، لتصحيح سياسة تداول النقد الأجنبي، واستعادته داخل القنوات الشرعية تمثلت في تعويم «الجنية المصري»، ترى ما التعويم؟ وما أسبابه وتداعياته؟
في الجانب النظري تشير الدراسات الاقتصادية لوجود عدة أنواع من التعويم، منها اعتماد سعر الصرف الثابت الذي يتدخل فيه البنك المركزي مباشرة في سوق النقد المحلي، والتحكم بحجم العملة المتداولة فيها عبر إجراءات عدة، ولهذه الطريقة مخاطر في استنزاف الاحتياطي الأجنبي، حيث ترفع السلطات النقدية يدها جزئياً أو كلياً عن أسواق الصرف وتتركه للعرض والطلب. أما النوع الثاني فيتمثل بربط العملة المحلية بأخرى عالمية مثل الدولار، تفادياً لتقلبات أسعار الصرف كما حدث في دول الخليج على رغم من مخاطر انخفاض أسعار النفط وتراجع الإيرادات، وهناك النوع المعروف بـ»التعويم المدار» عبر تبني آلية تحدد سعر أدنى وآخر أقصى للعملة المحلية، مع تدخل البنك المركزي عند الضرورة، وهذا يتطلب توفر الدولة على احتياطي جيد من النقد الأجنبي، وخصوصاً عند انحدار سعر العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وفي هذا أيضاً مخاطر تتمثل في استنزاف احتياطي النقد الأجنبي، أما النوع الآخر فيطلق عليه «التعويم المطلق» إذ يترك للسوق حرية تحديد سعر العملة بحسب العرض والطلب، وتكمن مخاطره في الاقتصاديات الضعيفة حيث يزداد الطلب على العملات الأجنبية وتنخفض العملة المحلية، ما يعني زيادة التضخم وارتفاع الأسعار.
الجنيه في قبضة المصارف
مصر اختارت تعويم عملتها عبر الانتقال من سعر صرف ثابت إلى آخر مرن، يترك فيه حرية تسعير وشراء وبيع النقد الأجنبي للمصارف، بموازاة رفع البنوك أسعار فائدة الإيداع إلى «20 في المئة»، بهدف إخراج المخبأ من الدولارات، وجذب السيولة المحلية، واستعادة توازن أسواق العملة، والقضاء على اضطرابها، السبب الأهم التعجيل بموافقة «صندوق النقد الدولي» على صرف قرض لمصر بقيمة «12 مليار دولار» مدته 3 أعوام؛ لسد عجز الموازنة المتوقع ارتفاعه إلى «330 مليار جنيه»، إذ كانت أهم اشتراطات الحصول على القرض هو تنفيذ «تعويم العملة».
اختلفت آراء خبراء المال والاقتصاد بشأن تعويم الجنيه، بعضهم ركز على حسنات القرار، وأغلبهم ممن يروجون للتوجه الحكومي بالقول؛ ان التعويم يعزز من جاذبية الاستثمار في مصر، وسيلبي احتياجات الصناعة من شراء واستيراد لمواد ومستلزمات الإنتاج، ما سيؤثر على استقرار العملية الإنتاجية في المصانع، وتوافر السلع بالأسواق بصورة منتظمة تحد من المغالاة في الأسعار، متوقعين زيادة في تحويلات العاملين بالخارج للمصارف المصرية. إضافة لرأيهم بأن القرارات المصاحبة للتعويم جاءت بالفائدة للطبقات الوسطى والفقيرة من خلال رفع فاتورة دعم السلع التموينية إلى «49 مليار جنيه»، وقبلها قرار زيادة دعم المواطن المقيد في البطاقة التموينية لشراء السلع من 18-21 جنيهاً، ودعم نحو «71 مليون» مواطن من خلال «21 مليون بطاقة تموين»، كما يجري حديثهم باتجاه تطبيق قانون «الضريبة التصاعدية» في إعفاء من يقل دخله عن «14.400 جنيه»، ويلزم بالدفع «10 في المئة» ضريبة لمن يصل دخله لـ»30 ألف جنيه» سنوياً، وتتزايد النسبة إلى «15 و20 في المئة» كلما زاد الدخل، بيد أن الخشية والقلق بسبب التعويم يتنامى من إثارة الاحتقان والاحتجاجات الشعبية في بلد اعتاد على الدعم الحكومي، فضلاً عما سببه التعويم من حالة إرباك شديدة، وتخبط في سوق الصرف أصابت المرابين بصدمة، حيث أجمعت التحليلات على التحذير من تداعيات القرار، وخطورة تأثيراته الكبيرة المتوقعة على الطبقة الوسطى والفقيرة الأكثر معاناة وتضرراً، لاسيما بعد زيادة أسعار الكهرباء والغاز والمياه ومع ارتفاع نسب التضخم، الذي سيتضاعف بسبب تطبيق ضريبة «القيمة المضافة» أيضاً.
انتفاضة الغلابة
في السياق تتكاثر التكهنات في ظل انخفاض قيمة الأجور الحقيقية للمواطنين، وتجميدها بموجب «قانون الخدمة المدني»، كما تزداد التوقعات بارتفاع أسعار الخدمات والسلع الأساسية المستوردة التي تمس جيب المواطن بشكل حاد، كالوقود والأدوية والقمح، وخصوصاً تلك التي يتحدد سعرها الرسمي بالدولار الذي ومع ارتفاعه نحو «50 في المئة» من البديهي أن يرفع من أسعار هذه السلع، وفي القادم وبحسب طلب «صندوق النقد الدولي» قد تتحرك أسعار الوقود بالارتفاع، مع إلغاء الدعم عنه وخصوصاً بعد خفض الدعم الحكومي للوقود ورفع أسعاره بين «30-47 في المئة»، ورفع سعر المحروقات بنسب بين «7.1 و 87.5 في المئة»، أضف إليها تكرار أزمات توافر الأرز والزيت والسكر في السوق، وارتفاع أسعارها كالزيوت ما بين «22-24 جنيها» للتر، وقفز سعر السكر إلى « 17.5 جنيهاً» للكيلوغرام رغم أن سعره الرسمي لا يتجاوز «7 جنيهات» على رغم خفض القيود أمام القطاع الخاص لاستيراد السلع التموينية بإلغاء الجمارك عن السكر الأبيض، علماً بأن مصر تستهلك نحو 3 ملايين طن من السكر سنوياً، وإنتاجها لا يزيد كثيراً على مليوني طن، وهو الذي يضطرها لسد الفجوة عن طريق الاستيراد، فكل هذا وذاك سيؤدى برأي الاقتصاديين إلى رفع التضخم وتفاقم الغلاء ومضاعفة أسعار السلع بمتوسط يتراوح بين «50-300 في المئة».
خلاصة الأمر مع وجاهة الرأي القائل بأن قرار تعويم الجنيه المصري يعد تحولاً كبيراً في السياسة النقدية، وإنه يعزز القدرة التنافسية للاقتصاد ويجذب الاستثمارات الاجنبية ويساهم بتوفير فرص عمل. وبرغم إشادة «صندوق النقد الدولي» ونصائحه، إلا إنه ليس خافياً بأن الأخير يستهدف إخضاع مصر لإملاءات الصندوق وتبعاً لسياسته التنموية التي لا تأخذ بخصوصيات الدول، ونصائحه غالباً ما تحمل أعباء جديدة على كاهل الفقراء، وخصوصاً مع الإصرار على شروطهم بفرض الضرائب على المواطنين، وإلغاء دعم الوقود بالكامل في مصر، ما يعني ارتفاع كلفة نقل البضائع التي قد يلحقها موجة تضخم كبيرة.
في الأخير الفقراء هم من سيتحمل دفع فاتورة هذه التدابير، مع ارتفاع معدلات الفقر وتباطؤ الاقتصاد العالمي، فيما ينتفع المستثمرين من مزايا قرارات الدولة التحفيزية للاستثمار الأجنبي، التي جاءت عبر توسعة إعفائهم من بعض الضرائب، ومنحهم أرضا للاستثمار بأسعار مخفضة أو بالمجان، أضف إليها تسهيل عملية التلاعب بالإعفاءات؛ بسبب الفساد وضعف آليات الرقابة. إن الهدف المعلن والرغبات شيء، وحقيقة هذه السياسات التي تساهم بإعادة إنتاج الأزمات شيء آخر، مصر من أسف تمر بمأزق قد يرفع السخط الشعبي لذروته جراء سياسات التقشف والضرائب، إنها قرارات غير مأمونة النتائج وخصوصاً مع تداول شعار «انتفاضة الغلابة» في أوساطهم.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5177 - الثلثاء 08 نوفمبر 2016م الموافق 08 صفر 1438هـ
حقا انها مأساة الالف جنيه يساوي تقريبا 40 دينار وقس على ذلك معدلات الرواتب فمثلا المعلم يستلم الفين جنيه وشويات فقط والطبيب اعتقد 10 الاف جنيه اي 400 دينار فقط
من المؤسف جدا ان تكون الدولة العربية الأولي في التعليم و الأقدم حضاريا و الرائدة في القومية ان تهبط الي هذا المستوي و يفشل من حكمها و أدارها في تأسيس اقتصاد قوي بناء علي كل مقوماتها. الأسباب كثيرة لهذا الفشل. .... خوفي ان ترفع مصر راية الاستسلام و تكتب عليها ، " كل شيئ للبيع ".