العدد 20 - الأربعاء 25 سبتمبر 2002م الموافق 18 رجب 1423هـ

ألم يصل مشروع أوسلو إلى نهاية الطريق بعد؟

السيد الرئيس ياسر عرفات:

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

تسكن ابنة أخت لي، الطالبة في جامعة بيرزيت، في بناية تابعة للجامعة بجوار مؤسسات السلطة الفلسطينية في رام الله، او ما يعرف بالمقاطعة. ما إن اذاعت نشرات الأنباء المختلفة، مساء الخميس الماضي 19 سبتمبر/ايلول خبر اقتحام الدبابات الإسرائيلية المقاطعة، اتصلنا بابنة اخي للإطمئنان عليها كما هي تقاليد الحياة الفلسطينية في السنوات الأخيرة. هل انت بخير؟ سألنا. قالت: نعم أنا بخير ما الذي يجري لديكم؟ سألنا. أجابت: الإسرائيليون يفجرون بنايات المقاطعة ويصيحون عبر مكبرات الصوت مطالبين الرئيس ورفاقه بتسليم انفسهم.

الرئيس عرفات بالطبع لم يسلم نفسه وليس لديه الاستعداد لتسليم الآخرين، والعملية الإسرائيلية ربما لم تستهدف حياته، على الأقل هذه المرة، ولا حتى القبض عليه وترحيله الى بلد مجاور. ولكن العملية الإسرائيلية استمرت خلال الأيام التالية، حتى ادت خلافا للتوقعات الإسرائيلية ولتوقعات الطامحين من المسئولين والمسئولين السابقين الفلسطينيين، إلى انفجار الغضب الشعبي الفلسطيني. ومن جديد، اخذت تقارير المراقبين والتعليقات تتداول الرأي حول ما ان كان التحرك الشعبي تعبيرا عن الدعم الفلسطيني الوطني لعرفات أو لوصول بشاعة الاحتلال مستوى لم يعد ممكنا مواجهته بالغضب السلبي فقط.

بيد ان للمسألة وجها آخر. فمنذ نهاية مارس/آذار والضفة الغربية قد أعيد احتلالها جميعا تقريبا، بينما مدينة رام الله، مقر الرئيس الفلسطيني وسلطة الحكم الذاتي، إلى جانب معظم مدن الضفة الغربية، تعيش تحت نظام منع التجول معظم ساعات اليوم. الرئيس الفلسطيني نفسه محاصر منذ شهور داخل عدد صغير من غرف مقره، الذي دمرت غالبية مبانيه وأجنحته منذ زمن، كما دمرت معظم مقار السلطة في المدن الأخرى من وزارات وهيئات ودوائر إلى مقار أجهزة الأمن المختلفة ومواقعها. بشكل من الأشكال، أصبح الرئيس الفلسطيني وما تبقى من الكيان الرمزي للسلطة، رهائن لدى الدولة العبرية. بشكل من الأشكال، تحولت العلاقة بين السلطة والدولة العبرية إلى ما يشبه السيف المسلط على رقبة قوى المقاومة الفلسطينية: كلما حاولت القوى الفلسطينية الرد على الاحتلال والعنف اليومي الذي تمارسه قواته، صعدت القيادة الإسرائيلية من تهديدها لحياة الرئيس ووجوده ولكيان السلطة الرمزي. بذلك أصبح وضع القوى الفلسطينية المقاومة، بل والشعب الفلسطيني ككل، وضعا فريدا في تاريخ حركة التحرر الوطني. فالشعب الفلسطيني قادر على الرد على الاحتلال ولكنه مطالب في الآن نفسه ألاّ يذهب بعيدا في هذا الرد حتى لا يهدد ما تبقى من سلطة لم يعد لها من دور فعال في حياته. بل أن بعض مسئولي السلطة، من وزراء وأعضاء برلمان وقادة أجهزة أمنية، باتوا يتبارون في إدانة خيار المقاومة ووصم الانتفاضة كلها بالخطأ، ظانين أنهم بذلك يستطيعون تأمين مواقعهم أو إعادة عقارب السلطة إلى الوراء.

ما لا تريد أن تراه الطبقة السياسية والأمنية الفلسطينية أن مشروع أوسلو قد انتهى، وأن نهايته وصلت إلى مستوى هزلي مؤلم تعقد فيه اجتماعات المجلس التشريعي الفلسطيني وسط حصار من الدبابات الإسرائيلية، ويمارس أعضاء المجلس الديمقراطية بينما جيش الاحتلال يعصف بالأرواح والأرض والمساكن، وتقدم الوزارة الفلسطينية استقالتها من مسئوليات وأعمال لا تقوم بها أصلا. بل أن نهاية أوسلو أبعد من تناقضات السياسة والاحتلال، الموت والديمقراطية، والسلطة والحصار، التي عاشها الفلسطينيون خلال الأسابيع القليلة الماضية ووصلت ذروتها في الدمارالذي أوقع بكل ما يحيط ببناية الرئاسة في رام الله.

كان الافتراض الذي سوق به أوسلو للشعب الفلسطيني أنه اتفاق بداية السلام العادل والكريم لكلا طرفيه، اتفاق يشمل بعض التنازلات من الجانبين مقابل أن يشقا، كل على طريقته، مستقبلا جديدا لأبنائهما وأجيالهما القادمة. ولكن الطرف الإسرائيلي، الذي صاغ اتفاق أوسلو أصلا ليتطابق مع تصوراته للأمور، رفض حتى تنفيذ التزاماته تجاه الاتفاق نفسه وكل الاتفاقات الفرعية المتولدة منه. ليس ثمة اتفاق واحد وقعه الفلسطينيون مع الإسرائيليين منذ 1993 تم تنفيذه بالكامل أو طبقا لما يمكن أن يستخلصه المنطق الإنساني البسيط من فحواه. والأسوأ أن نتائج الاحتلال وإفرازاته قد تفاقمت خلال حقبة أوسلو عما كانت عليه قبلها. لقد ازداد ارتباط الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الدولة العبرية، واتسع نطاق الشركات الاقتصادية والاستثمارية بين رجال السلطة الفلسطينية والإسرائيليين بشكل غير مسبوق، وكأن السلام قد استقر بالفعل بين الطرفين. كما أن الدولة العبرية تتحكم تحكما كاملا في الموارد الضرائبية للسلطة. وتستخدم الدولة العبرية هذه الموارد كورقة ضغط سياسي عليها. في مرحلة ما قبل أوسلو، كانت سلطات الاحتلال، كما كل سلطة احتلال، تلجأ إلى الأساليب الدنيئة والرخيصة لتجنيد العملاء، أما في حقبة ما بعد أوسلو، فقد باتت أجهزة الأمن الفلسطينية أذرعا للأمن الإسرائيلي، حتى جاءت الانتفاضة لتنقذ بعض ما تبقى من كرامة هذه الأجهزة. وتتفق إحصاءات مختلف الأطراف، بما في ذلك احصاءات وتقارير بعض المؤسسات الإسرائيلية الحقوقية، على أن حجم ومدى الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية قد ازداد بوتيرة هائلة خلال سنوات أوسلو عما كان عليه طوال السنوات الخمس والعشرين من الاحتلال قبلها.

باختصار، لم يحقق أوسلو شيئا من وعوده. لم يحقق ولو درجة واحدة من الاستقلال والسيادة، لم يحقق الرفاه، لم يأت للفلسطينيين بسلطة نزيهة تمثله حقا وتدير شئونه كما يجب. ولم يحقق شرطا واحدا من شروط السلام، لا السلام الذي يتصوره الفلسطينيون ولا حتى ذلك الذي يريده بعض عقلاء الإسرائيليين. أوسلو كما أشار الكثير من المراقبين من قبل، كان اتفاقا لضمان الأمن الإسرائيلي، وقد تطور سياقه خلال سبع سنوات على هذا الأساس. فما إن اندلعت الانتفاضة حتى تطايرت شظاياه في سماء الشرق الأوسط. الانتفاضة، بهذا المعنى، لم تقضِ على أوسلو أو على السلطة التي أوجدها (كما يعتقد بعض رجال السلطة) بل قضت على ما تبقى من أوهام اتفاق لم يفِ بوعوده قط.

وليس ثمة من طريق لاستعادة تلك الأوهام. الطريق الفلسطيني إلى واشنطن بات مغلقا، وعلى القيادة الفلسطينية أن تعي حقيقة ما يراد بمشروع إقامة دولة فلسطينية بعد ثلاث سنوات من الآن الذي تتبناه واشنطن. تدرك إدارة بوش، وعلى رغم من انحيازها الصارخ للدولة العبرية، أن أي تحرك جاد لإقرار السلام في المنطقة لابد وأن يصطدم بالإسرائيليين. وليس ثمة من طرف في إدارة بوش على استعداد لمثل هذا التحرك أو احتمالات الصدام مع الإسرائيليين إلا بعد الانتخابات الرئاسية بعد عامين من الآن. هذا إن أعيد انتخاب بوش فعلا. أما محاولة استخدام الثقل العربي في مواجهة الانحياز الأميركي والاستفحال العدواني الإسرائيلي، فقد وصلت إلى سقفها. ليس لأن فلسطين تفتقد التعاطف العربي الرسمي والشعبي، بل لأن احتلال توازن القوى، عالميا وإقليميا، وصل إلى مستوى لم يعد النظام العربي بوضعه الحالي قادرا على اختراقه. ما زاد من تفاقم هذا الوضع كان بالطبع الآثار الثقيلة للحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فما الحل إذن؟

الحل أن يستجمع الرئيس الفلسطيني شجاعته، وهو الذي لا تنقصه الشجاعة، ويضع حدا راديكاليا وانقلابيا لهذه المهزلة، مهزلة الرئاسة المحاصرة في غرفتين، والسلطة الوهمية، وحال التحرر الوطني الممزقة بين مواجهة العدو والحفاظ على وهم مؤسسة السلطة الوطنية. آن الأوان لأن يدرك الرئيس الفلسطيني أن حقبة أوسلو قد انتهت، وأنها انتهت بلا رجعة، وأنه ربما من الخير أنها انتهت، وأن يرسم خياراته على هذا الأساس. في كامب ديفيد، قلب عرفات الطاولة على الجميع، وقد آن الأوان لأن يسحب المقاعد من تحتهم. آن الأوان لأن يرسل الرئيس الفلسطيني رسالة قاطعة وواضحة إلى العرب وإلى الإدارة الأميركية وإلى الإسرائيليين، رسالة فحواها أنه على غير استعداد للاستمرار في هذه المهزلة وأنه ما لم تنسحب قوات الاحتلال من جميع مناطق السلطة الفلسطينية فإنه سيصدر قراره برحيل جميع مؤسسات السلطة وقياداتها إلى الخارج: الوزارات والوزراء، المجلس التشريعي وأعضاؤه، الأجهزة الأمنية وقياداتها، والرئيس ومكتبه، وسيترك شارون وجها لوجه مع الشعب الفلسطيني. إن لم يستجب الإسرائيليون وحلفاؤهم في واشنطن، فلينفذ الرئيس تهديده، ويعلن ويعمل بوضوح من المهجر على تعزيز قدرات المقاومة الفلسطينية وقواها. عندها لن يجرؤ فلسطيني ما على محاولة التورط في سلطة بديلة، فالشعب الفلسطيني ليس اضحوكة لتمرر عليه دعاوى الإصلاح في ظل فوهات المدافع الإسرائيلية. سيرفع الشعب الفلسطيني وقواه من مستوى المواجهة، ولنرى عندها كم سيتبقى من أوهام شارون في اخضاع الشعب الفلسطيني، كم سيتبقى من أوهام واشنطن في امكان إقامة شرق أوسط جديد، وكم سيتبقى من أوهام العالم في امكان تحقيق الاستقرار في المنطقة. أيها السيد الرئيس لقد وصل مشروع أوسلو إلى نهاية الطريق وآن لك أن تعيد رسم المعادلة من جديد

العدد 20 - الأربعاء 25 سبتمبر 2002م الموافق 18 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً