العدد 20 - الأربعاء 25 سبتمبر 2002م الموافق 18 رجب 1423هـ

دون كيشوت وصل إلى البيت الأبيض

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل أربعة قرون كتب الأديب الإسباني الشهير ميغيل سيرفانتس رائعته الخالدة «دون كيشوت»، ليسجل إدانته لعالمه الإقطاعي الذي وصل إلى حافة التفسخ، وليسجل علامات الانهيار والتداعي لعالم تحكمه قيم الفروسية الزائفة. تبدأ القصة بخروج الفارس «دون كيشوت» في رحلة مغامراته بصحبة خادمه وحامل سلاحه «سانشا بانشا»، وكل الرواية تدور حول مقارعة الحيطان ومناطحة الأشجار ومحاربة طواحين الهواء والاصطدام بكل ما يعترض طريقهما من بشر وحجر ومدر! والرواية مليئة بالمواقف المضحكة المبكية، والجروح والصدمات والكدمات والسقوط من على صهوة الحصان! كل ذلك والفارس يعيش أحلام النصر التي لا تريد أن تقف عند حد!

هذه الصورة الساخرة التي تنضح بها الرواية الخالدة كثيرا ما ترد على خيال المرء الذي يراقب ويتأمل ما يجري في عالم اليوم، من اندفاعة السياسة الأميركية الهوجاء التي تريد اكتساح ما يعترض طريقها، حسب منطق يفتقر إلى العقلانية والرشد: «إما معي وإما ضدي». وكثيرا ما تذكّرني صور الرئيس الأميركي على شاشة التلفاز بـ «دون كيشوت»، ويذكرني طوني بلير بتابعه «سانشا».

مشكلة الرئيس بوش أنه يحكم دولة عظمى تلقت صفعة قوية على وجهها وبصورة مفاجئة، مما ضاعف من ردة الفعل وزاد من الهياج، وعندما أراد أن يرد الاعتبار لنفسه وبلده بتجييش الجيوش وإرسال الأساطيل وبدأ القصف على أفغانستان، انهار نظام «طالبان» بسرعة، ووجد نفسه في حال تستدعي مواصلة الحرب، حتى لو كانت مجرد قصف للجبال والقرى البائسة وهدم بيوت الطين. وكانت الحصيلة بعد عام كامل مئات من الأسرى المحشورين في معسكرات اعتقال غوانتانامو، في ظروف أثارت احتجاج العالم أجمع.

ومادام فارس البيت الأبيض تحكمه «عقدة أفغانستان»، بحيث ذهب ليدمر بلدا لم يجد فيه ما يدمر غير الأفغان، فإنه لن يتوانى عن ضرب العراق وغير العراق، ليثبت فروسيته. ولكن من سخرية القدر أن تكلفة الحرب في شهر واحد كانت تعادل موازنة أفغانستان لمدة عام كامل. وأمام نصر بارد شاحب ومشكوك فيه، وجدت أميركا نفسها بعيدة حتى عن تحقيق الهدف الأول الذي سوّقته لإقناع العالم وهو اعتقال أسامة بن لادن، والذي سرعان ما تخلت عن الحديث عنه فارتاحت وأراحت!

من هنا يأتي العراق ليكون الضحية الأولى المطلوب سحقها عن طريق السياسة الأميركية الهائجة، ولا يهم أن يقف العالم أجمع في جانب، مادام الفارس الأميركي وتابعه في جانب آخر.

فارس القرن السابع عشر الذي صنعه سيرفانتس من خياله لاقى من الكدمات والجروح والإصابات والمقالب الكثير، مما يحمل القارئ على التعاطف معه وأحيانا الرثاء لحاله، خصوصا أن حماقاته انحصرت فيه وفي تابعه «سانشا»، أما فارس القرن الحادي والعشرين، فيعلم الله وحده كم من الآلام والدماء والدموع والدمار سينشره في منطقتنا التي كتب عليها أن تدفع ثمن حماقات الآخرين.

يبقى لو جاء سيرفانتس اليوم وشاهد ما يجري، فهل سيصدّق أن ما كتبه قبل أربعة قرون، من باب الأدب الساخر في معالجته لقضايا عصره المترهل، سيكون هو النهج الذي تتبعه حرفيا دولة عظمى في معاملتها مع بقية شعوب الدنيا

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 20 - الأربعاء 25 سبتمبر 2002م الموافق 18 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً