أقام ملتقى الأديان والثقافات للحوار والتنمية واتحاد الحقوقيين العرب (لمناسبة انعقاد مكتبه الدائم)، الندوة الفكرية "التأمت في بيروت"، تحدّث فيها ثلاث شخصيات بارزة: هم السيد علي فضل الله، وإدمون رزق، والمفكر والأكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان.
هذا، وافتتح الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب المحامي عمر الزين، الندوة بتقديم المحاضرين، فجاء على ذكر السيد علي فضل الله، وأشاد بدوره في رئاسة ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار، وبمواقفه في نشر وتعميم فكرة السلم الأهلي، وفي الوقت نفسه هو الباحث والمؤلّف في الشؤون الفقهية والإسلامية، وهو "زميلنا" في الحقوق، إذْ تخرّج من كلية الحقوق ومهموم بالبحث عنها، وهو نجل العلاّمة الكبير السيد محمد حسين فضل الله صاحب المدرسة الوسطية الاعتدالية، وأحد أبرز قادة التقريب بين المذاهب.
وعن إدمون رزق قال: على المنابر عرفناه داعية للوحدة الوطنية والذود عن كرامة الأمة والوطن، وفي ساحات العدل والدفاع عن الحق والكرامة رافعناه، وفي جلسات الحوار السياسي كان الصادق، الصلب، والمرتفع عن الأهواء، وقد شارك في اتفاق الطائف، وكان له اليد الطولى في صياغته.
وقدّم الزين، عبد الحسين شعبان بقوله: المُعرّف لا يُعرَّف كما يُقال، ولكي لا أخدش تواضع الرجل، وهو تواضع العالِم، فقد درس في أربع جامعات، ودرَّس وحاضر في العديد من الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات ومختلف الهيئات الثقافية والقانونية والحقوقية، وكان مؤسساً للعديد منها. هو مفكرٌ مجدّدٌ وداعية حوار ورجل سلام، انشغل بقضايا التنوير والحداثة، وكتب عن الأديان والمجتمع المدني والتنمية، وقدّم قراءات خاصة لتطوير الفهم المتجدد لقضايا حقوق الإنسان ونشر ثقافاته. في رصيده أكثر من 60 كتاباً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والإسلام والمسيحية والتسامح واللاّعنف. هو عراقي المولد، عربي الهوى، إنساني الانتماء.
فضل الله والهوى الصعب
شدّد فضل الله على أهمية النهوض بحقوق الإنسان والمواطن، هذه الحقوق التي نراها كما قال: تهدر اليوم من قبل الكثير من الحكومات والقوى الاستبدادية والطائفية، ولو أدى ذلك إلى نشوء الفتن وإحراق الأوطان، وجعل البلاد لقمة سائغة بيد القوى الدولية، وساحة مفتوحة لها، تستخدمها في صراعاتها أو لتثبت نفوذها في هذا الشرق.
وأضاف السيد فضل الله: ومن الطبيعيِ أنَّ المعادلةَ السياسيةَ الداخليةَ لا تنهارُ إلى هذا المدى الذي نشهدُه، لولا الاختلالُ في العلاقةِ بينَ السلطةِ والشعبِ، وهي لم تكنْ علاقةً سليمةً، بل تأسَّسَتْ على مصادرةِ السلطاتِ لحقوقِ المواطنينَ وحرياتِهم، وعدمِ احترامِ إنسانيّتِهم وخصوصياتِهم. وأخطرُ ما في الأمرِ حينَ تستندُ هذه المصادرةُ إلى غطاءٍ ذي بعدٍ طائفيٍ أو عقائديٍ أو اجتماعيٍ محددٍ، بالشكلِ الذي يجعلُها موضعَ استفزازٍ لكلِّ ألوانِ الطيفِ الوطنيِ، وموضعَ تهديدٍ للتنوّعاتِ الاجتماعيّة والطائفيّة الّتي لا يكادُ يخلو منها بلدٌ منَ البلدان.
وفرّق فضل الله بين الطائفة والطائفية، فالأولى هي مجموعة من الأفراد الّذينَ ينتمونَ إلى دينٍ معين، وهي تقومُ في جوهرِها على قيمٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ وُجدَتْ لتغنيَ الحياةَ الاجتماعيةَ والسياسيةَ وتحفظَ توازنَها، فلا مشكلةَ في الطائفةِ، وإذا كانَ منْ مشكلةٍ، فهي في تفريغِ الطائفةِ منْ مضمونِها القيميِ والإنسانيِ، وتحويلِها إلى حالةٍ عصبويةٍ تنغلقُ على ذاتِها، وتتمثلُ فيما يُعنوَنُ بالطائفيةِ، وهي بطبعِها هجوميّةٌ إقصائيّةٌ إلغائيّةٌ تبتغي الغلبةَ وتحسينَ مواقعِها والاستيلاءَ على الدولةِ، ولو على حسابِ الآخر.
واختتم فضل الله بالقول:ولذلك، فإنَ الطائفيةَ تبقى عقبةً أساسيةً أمامَ الاستقرارِ السياسيِ والاجتماعيِ، وعنصراً معيقاً لتنميةِ الوطنِ وازدهارِه اقتصادياً وثقافياً، وهي في الأساسِ عاملٌ معطلٌ لبناءِ دولةِ العدالةِ والمساواةِ. وبخصوص الإرهاب أورد نصّاً من القرآن يقول: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾.. فالإرهابُ أنْ تقتلَ بغيرِ وجهِ حقٍّ، وهذا الحقُ منطلقُه هو القيمُ والمبادئُ التي لا تقومُ الحياةُ إلا بها.
وتناول الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية والثقافية والدينية لظاهرة الإرهاب، وأضاء بشكل خاص على علاقة الطائفية بالإرهاب، حيث تتضاعف خطورته في ظل أنظمة ذات الطابع الطائفي أو المذهبي، وهو يتغذى من الحساسيات الطائفية والمذهبية والانقسامات من جهة أخرى، واعتبر الإرهاب عقبة أساسية وخطرة أمام الاستقرار السياسي.
وشدّد على بعض القواعد كمعالجات لمحاربة الظاهرة من خلال: رد الاعتبار لمفهوم الدولة التي تمثل طموحات المجتمع ككل، وقصد بذلك دولة العدالة والحرية والمساواة، أي دولة المواطنة، ووضع مسؤولية على الحقوقيين العرب بتقديم صيغ مناسبة لحل الإشكال القائم على الانتماء إلى الوطن والانتماء إلى الطائفة.
وبخصوص الدين قال: يمكن للدين أن يؤدي دوره بالتعامل مع الدولة وفق معايير القيم والمقاصد الإنسانية والأخلاقية التي يحملها لتكون وظيفة الدولة تحقيق الكرامة والعدالة والحرية لجميع المواطنين، مشدداً على أهمية الوظيفة التربوية في بناء الإنسان وضرورة تطهير الطائفة من النزعات العصبوية والسلطوية، من خلال الإيمان بالقيم الإنسانية. وأخيراً إظهار بطلان الادّعاءات للتيارات الإرهابية على محاولة إضفاء الطابع الديني المقدّس على توجهاتها وسلوكها.
إدمون رزق والهويّة الجامعة
أما مداخلة إدمون رزق فقد ركّزت على بعض التعريفات استناداً إلى أبحاث رائدة على حد تعبيره مثل "الهويّة اللبنانية المتعدّدة الثقافة" للمحامي بهجت رزق، إضافة إلى تجربته الشخصية. وتساوقاً مع بهجت رزق، فإن الأديان بذاتها "ثقافات" من شأنها أن تؤدي: إما إلى إغناء في حال الاعتراف بالآخر وقبول الاختلاف، وإما إلى حروب لا تنتهي في حال الإصرار على رفض الآخر، واعتباره تهديداً وجودياً مشيراً إلى تفاقم الإشكالية مع ظاهرة العولمة.
ويحدّد رزق: الخيار الطبيعي ورهان العصر كما يقال لـ"لبنان اللبناني" الملتزم بميثاقَي جامعة الدولة العربية والأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أي لبنان الذي يقوم على المساواة في المواطنة وتحمّل المسؤولية.
ويتطرّق رزق إلى تجربته الشخصية فيقول: إنه رفض الممارسات الطائفية منذ بدايات نضاله، تلك التي تتلطى بالأديان والمذاهب، لتحقيق مآرب سياسية ومنافع شخصية وترويج مشاريع فئوية، ويتعرّض إلى مشاركته في هيئة الحوار الوطني العام 1976، ويتناول مؤتمر الطائف ومحاولة تجاوز الطائفية (المادة 95) من التعديل الدستوري، الذي عُهد إلى مجلس الوزراء وضعه (العام 1990) خصوصاً باعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة.
ويتحدّث عن تأليف الهيئة الوطنية من "شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية" واقتراح السبل الكفيلة بإلغاء الطائفية وفق خطة مرحلية، ويعتبر ذلك ممراً لإلغاء الطائفية السياسية. ويشير إلى أنه حاول تطبيق هذه القاعدة منذ العام 1973 بالوزارات التي تولاها، ثم بشكل قاطع العام 1990، كما يقول عند إجراء التشكيلات القضائية.
يختتم بالقول إن المواطنة في مواجهة الطائفية هي تعويذة الوحدة في وجه التصنيف والتمييز العنصري والحضارة في مواجهة التخلف والمعرفة في مواجهة الجهل والنزاهة في مواجهة الزبائنية والمحسوبية، وهي الضمان لمواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة.
شعبان: الطائفية والإرهاب وجهان لعملة واحدة
أما المفكّر والأكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان، فقد تناول أهمية الموضوع ودلالاته، واستذكر مع دولة رئيس الوزراء اليمن الأسبق محسن العيني، حالنا أين كنّا وأين أصبحنا، وذلك قبيل دخوله قاعة المؤتمرات، وأشار إلى استقبال النجف لأمين الريحاني واحتفائها به، دليلاً على الانفتاح وقبول الآخر، وكان ذلك في العام 1922. وأشار إلى أين نحن الآن من انقسام المجتمع وتفككه وتفشي الطائفية والإرهاب والتكفير، وصولاً إلى داعش وما قامت به.
وأشار إلى علاقة موضوع المواطنة بحقوق الإنسان، وهي تمثل القوة الحقيقية للدولة، وليس قانون القوة، فالقوة بالقانون وبالحريات والمساواة والمواطنة والشراكة والمشاركة. وتوقف عند مفهوم الإرهاب، وأشار إلى أن الباحث السويسري ألكس شميد، أورد 109 تعريفاً للإرهاب، والمهم ليس التعريف بقدر التزام القوى الكبرى به وعدم توظيفه لأغراضها الأنانية الضيقة، وأورد ما يتعلق بقانون جاستا الأمريكي الذي صدر تحت عنوان "العدالة ضد رعاة الإرهاب"، واعتبره قانوناً غير قانوني لتعارضه مع مبادىء الأمم المتحدة وميثاقها، ولا سيّما مع مبادىء السيادة والحصانة السيادية للدولة.
ثم تناول القرارات والإعلانات الدولية التي صدرت ضد الإرهاب الدولي، فقال هناك نحو 13 اتفاقية وتصريحاً دولياً منذ العم 1963 ولغاية العام 2001، ولكنها جميعها لم تصدر تعريفاً للإرهاب لاختلاف وجهات النظر والمصالح الدولية بشأنه.
وسلّط الضوء على ثلاث قرارات صدرت بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة العام 2001، وخصوصاً القرار 1373 الذي اعتبره أخطر القرارات الدولية التي صدرت عن الأمم المتحدة، له "شرعن" لفكرة احتكار العدالة والحرب الاستباقية أو الحرب الوقائية، واعتبر ذلك عودة للقانون الدولي التقليدي الذي يجيز للدولة شن الحرب أنّا شاءت إذا كان ذلك يتفق مع مصالحها القومية، وهو عودة إلى تشريع "الحق في الحرب" و"الحق في (الغزو)" خلافاً لمبادىء الأمم المتحدة.
وتوقف شعبان عند 4 قرارات صدرت بعد سيطرة داعش على الموصل في 10 حزيران (يونيو) العام 2014، وأشار إلى ما تمثله ظاهرة مكافحة الإرهاب، التي تستوجب تعاوناً دولياً، لمحاربة الفكر الإرهابي وتصفية منابعه وجذوره، ولا سيّما معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والقومية والطائفية التي تؤدي إليه.
ثم تناول شعبان ظاهرة الطائفية التي أدّت إلى تشظّي مجتمعاتنا وخطرها الآني والمستقبلي وكونها السوق السوداء للإرهاب، مفرقاً بينها وبين الطائفة التي هي تكوين اجتماعي تاريخي وطقوس وتقاليد تطّورت على مدى قرون من الزمان، إضافة إلى اجتهادات فقهية وقال: إن محاربة الطائفية تعني العودة إلى دولة المواطنة والحق، الدولة المدنية، التي تقوم على الحريات والمساواة والعدالة ولا سيّما الاجتماعية، والمشاركة والشراكة، وبذلك تكون المواطنة قاعدة حقيقية لمواجهة الطائفية ومواجهة الإرهاب وجهها الآخر.
وفي الختام، شكر عمر الزين الحضور والمتداخلين وجمعية التخصص والتوجيه العلمي على استضافتها لهذه الندوة بشخص الأستاذ واصف شرارة، مؤكّداً أن بناء الإنسان المتكامل الشخصية يقوم على المواطنة التي تبدأ من البيت والمدرسة، حيث لا تنمية شاملة دونها، لا سيّما بفقدان العدالة والمشاركة ومبادىء المساواة. ولا تصلح الأمم إلاّ بالعدل والقضاء على الفساد.